إصدار كتاب: « فلسطين، مذكرات 1948، القدس 2018 »

إن التاريخ السائد يظلم في غالب الأحيان المنهزمين. وأولئك الذين ذاقوا طعم الهزيمة سنة 1948، ليسوا استثناء بل على العكس. إذن كيف يمكن نشر تاريخهم وتاريخ فلسطين قبل وبعد وخلال النكبة؟ كيف يمكن اختراق حاجز الروايات الرسمية لإنقاذه من النسيان؟ كيف يمكن الانسلال عبر سَرْدٍ تاريخي كتبه الذين طردوا الساكنة من بيوتها ومن أراضيها ودمروا غلتها بل انهم ينكرون وجودهم من قبل؟ كيف؟ عبر سرد وحكي شخصي...
إنها حكايات واقعية، تروي كيف تمت هذه الأحداث في القرية. كيف كانوا يعملون؟ وكيف ولدوا وتزوجوا؟ وكيف وصل الجنود الإسرائيليون في الساعات الأولى من الصباح أو في الليل ليدمروا البيوت وينشروا الفزع والخوف
"لا يوجد شعر وليد الانتصار" هكذا يقول الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. وعند قراءة شهادات 18 فردا، 8 نساء و10 رجال التي جمعها كريس كوينتي في كتابه، نقتنع بسرعة أنه إن كان هناك أمر لم ينتزع منهم فهو الشعر. كما لو أن الشعر هو بالفعل وليد الهزيمة ومرارتها.
وهذا ما نستشفه في كلمات رشيدة الهديب، وهي قروية عجوز من دواميح غير بعيد عن مدينة الخليل، نستشف الحنين عندما تروي كيف أن أحفادها ومعظم الأطفال الفلسطينيين الذين أصبحوا مثلها حاملين للجنسية الأردنية، يشعرون بالحنين إلى وطنهم وكيف تسري في عروقهم روح الأماكن والقرى والمدن التي كان يعيش فيها آباءهم والأماكن التي يحظر عليهم الذهاب إليها ولو للزيارة والتي يجهلون كل شيء عن جمالها.
"إنهم لا يعلمون أن الصبار نما محل قُرَانَا كما لو أنهم أرادوا محاربة النسيان بالأشواك. إنه دورنا نحن كبار السن أن نحكي لهم وننقل لهم الرائحة المميزة لفلسطين، مزيج من النضارة والسكر الذي يشبه نكهة العسل".
ومن المعلوم أن سنة1948، كانت سنة سوداء وكارثة تاريخية للفلسطينيين. ولكننا نعلم أقل حول ما كانت عليه على المستوى الشخصي أو ما آلت اليه العائلات المتفرقة خلال فرارها.
كل حكاية وسرد يصور مختلف الطرق والاستراتيجيات المتبناة للبقاء والابداع والمقاومة. وحسب ما تشير إليه الباحثة وإحدى كاتبات مقدمة الكتاب فلسيتان نايلي، هذه التجارب لا يمكنها رسم صورة شاملة للواقع المعاش للفلسطينيين ولكنها تعطي صورة عنها" بالإضافة الى أن "من غزة الى الناصرة، كل واحد من هؤلاء الشهود ينحدر من منطقة مختلفة من فلسطين ما قبل الاحتلال، وهم حاليا منتشرون في ربوع العالم.
وإذا عدنا إلى رشيدة الهديب، وقريتها دواميح، فهي من بين القرى التي اختفت بالكامل، مُحِيَتْ، وعُوِّضت بمستعمرات إسرائيلية. " وغُيِّرَ اسمها حتى يتم محوها من الذاكرة الجماعية، بل من الذاكرة بكل بساطة".
هذه القرى التي تم محوها أمام صمت التاريخ، تقدر ب418 الى 530 قرية. وتحكي العجوز كيف حدث ذلك في 29 من كتوبر 1948، قرابة منتصف النهار، عندما حضرت ثلاث دوريات إسرائيلية الى دواميح، ولحسن الحظ أن عمها قام بإعلامهم في الوقت المناسب فسنحت لهم الفرصة للهرب بناقتين والقليل من الزاد.
"إن الجنود الإسرائيليين عمليون، إنهم يتقدمون كموجة مظلمة يفتحون البيوت الواحد تلو الآخر يفرغون أسلحتهم في كل ما يصادفونه، هذا هو نهجهم عندما يكون هدفهم إفراغ قرية كليا من ساكنتها. إنهم يعلمون أن من يبقى على قيد الحياة بعد المجزرة، يلوذ بالفرار".
إن هذه المجازر ليست من فعل الجماعتين الصهيونيتين أرجون و شتيرن، المسؤولة عن عدة مجازر من بينها مجزرة دير ياسين، في 9 من أبريل1948، والتي كان لها دورا محوريا في هجرة الفلسطينيين والتي استنكرها دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للإسرائيل.
وبقية الاحداث هي عبارة عن كابوس ، إذ تحكي العجوز أنه "وقف مدفعان أمام مسجد دراويش حيث يقبع 75 شخصا مسنا معظمهم رجال، ومن بينهم جدي محمود أحمد الهديب، والذي كان يبلغ 90 سنة. لم يكن للمسنين وقت للفرار ولم يفكروا فيه، مقتنعين أنه بحكم سنهم فإن الإسرائيليين لن يصيبوهم بأذى...وتمت تصفيتهم جميعا."
ويعود بنا بقية الشهود الى فترات أخرى من النكبة، أو الكارثة الفلسطينية المستمرة بأشكال مختلفة حاليا. وهكذا يحكي سليمان حسن، رجل سبعيني، فلاح وراع من كفر لاقيف، كيف يدافع عن أشجار زيتونه منذ العشرات من السنين. لقد شاهد المستعمر يجتث أشجاره وفقد حقه في الذهاب الى أرضه باستثناء 6 أيام في السنة وتحت حراسة من الجيش، لكنه لم يخضع ولم يشأ يوما أن يبيعهم أرضه حتى ليصبح رجلا ثريا، وهو يلجأ لكل الطرق القانونية لأجل استرجاع حقه في ملكية أرضه أما المستعمرات بعد الاحتلال سنة 1967.
أو المحامي فؤاد شحاذة من رام الله الذي مازال يزاول مهنته رغم سنه،( 93 سنة) لأجل مساعدة الفلسطينيين على الدفاع عن بيوتهم وعن أصولهم المجمدة من قبل السلطات الإسرائيلية وعن أرضهم منذ سبعة عقود. ورغم أنه أصبح ضريرا بعد حادث، يظهر في كتاب غنيس للأرقام القياسية بصفته المحامي الذي طالت مسيرته أكثر في العالم.
كما يحملنا هذا الكتاب لاستسقاء شهادات المهاجرين الفلسطينيين الذين نجحوا في بدء حياة جديدة وهي حالة نخل صحوة، 83 سنة من مواليد بيت جلا، قرب القدس والذي استقر بالشيلي. هذا البلد يضم ما بين 300.000 و400.000 لاجئ فلسطيني، وهو أكبر عدد من اللاجئين المستقرين خارج العالم العربي والذين يدعون هناك ب "التركوس" بسبب جواز سفرهم العثماني الذي جاءوا به عند حلولهم بأمريكا الجنوبية في نهاية القرن 19، في ذلك الحين كانوا يفرون من التجنيد الاجباري الذي فرضه العثمانيون عليهم خلال الحرب العالمية الأولى.
"منزلي بأكمله يتنفس فلسطين : أشياء ومطرزات ولوحات وخريطة فلسطين وصور.... فوق مكتبي" يحكي نخل صحوة، "إن فلسطين في مأكلنا الذي نعده، في اللغة التي نعلم لأطفالنا رغم أنهم يحملون الجنسية الشيلية، إنهم يعلمون أنهم من فلسطين لكنهم لا يرغبون في العيش هناك، لكني أنا أحلم بذلك، لأنني طردت بعيدا عن بلدي رغما عني..... وأنا أريد أن أقضي ما تبقى من العمر حيث ولدت، أسمع صوت الحمام وأتذوق عصير الليمون وآكل الخبز المغمس في زيت الزيتون".
إن هذه الرحلة في الذاكرة الفلسطينية يقول روني برومان، في مقدمة كتابه، لا تروي لنا كل تاريخ فلسطين ولكنها تكشف وبشكل حيوي أسطورة سائدة : أنها أرض جوفاء مهجورة تعبرها بعض القوافل، أرض سيجعلها العبريون الجدد غَنَّاءَ، وصحراء سيحولها اليهود إلى جنة. هذا الكتاب يذكرنا بوجود مجتمع فلسطيني ببورجوازيته وفلاحيه وأعوانه ومثقفيه وعماله، مجتمع يحاول السرد والتأريخ اليهودي أن يمحيه من الوجود".