الحي الخطير.. رواية لا تُقرأ في الجنة!
فرغتُ قبل لحظات من قراءة رواية "الحي الخطير" لـ محمد بنميلود. يومان وأنا مخزون في غرفة بالحي الجامعي السويسي مع شخصيات هذه الرواية، شخصيات كلها من الفقراء، والمعطوبين، والحبّاسة، والشمكارة، والعاهرات، والمعتوهين، والحثالة، والأطفال الذين بلا آباء حقيقيين ولا أمّهات حقيقيات.
أحداث صادمة ودموية ومثيرة للقيء والحنق، والتبول من السماء على سطح هذا العالم الموبوء. يرويها مراد ولد السلاّخ من داخل زنزانة، بعد أن فقَد أمه وصديقيه عبد الرحمن ورشيد، والمال والشرف والحيّ وكل شيء. ولم يعد لديه بتعبيره " شيء ليخسره، مثلما ليس لدى جرذ محاصر شيء ليخسره".
عائلات جاءت من قرى بعيدة، وتكدستْ داخل براريك، بحي أبي رقراق، ودوار الحاجّة، على هامش عاصمة المغرب الرباط، عصابات طفحتْ كالقيح على جلد الحي، فسالتْ بكل ما تختزنه من إجرام وحقد وجوع واستعداد دائم للقتل، وتشتيت للرؤوس والجثث في الخلاء وعلى السطوح وعلى ضفاف النهر. بلا ندم.
مراد، عبد الرحمن، رشيد، بّا العربي الفرناطشي حارس الجحيم، عصابة الشْعبة، وعصابة صحراوة، ومروجو المخدرات، والقوادات، والهاربات، والفقهاء، والمقْدم، والقايد، والبوليس، والدولة.. وأوجه كثيرة يائسة، معدمة، وعائشة على هامش الحياة. هؤلاء أبطال (إذا صحّ هذا اللقب هنا) محمد بنميلود في حيّه الخطير.
إنها بحق رائعة من روائع أدب الهامش، الذي افتقدناه كثيرا منذ رحيل الكبار (محمد شكري، ومحمد زفزاف) ها هو ينبعث من جديد وبشكل مدهش مع بنميلود.
وصلني قبل أيام من أحد الأصدقاء أنه قرأ الرواية قبلي ولم تعجبه لغتها، التي وصفها بأنها أقرب إلى مقال صحفي لا إلى نص روائي، لم أجبه حينها وتركت الأمر لما بعد القراءة. أما الآن، والنصّ أمامي، وقد فليتُه كلمة كلمة (حتى ما يسمّى لدى المتخلقين البذيئة منها)، وبحثت جيدا في كيفية توظيفها، ووجدتُ أن الكاتب لم يُنطق شخصية إلا بلغتها، ولم يوظف كلمة إلا في سياقها، أستطيع القول إن أهم ما أثار دهشتي في الرواية هو لغتها، التي يمكن اعتبارها هي الأخرى شخصية هامة تنضاف إلى الشخوص السابقة إن لم تكن أهمها. لقد كُتبت بلغة "الحي الخطير"، بلغة الهامش، الصادمة والبعيدة عن كل مظاهر التنميق والتزويق، إذ لا زْواق في هذا الحي، حتى على قصدير براريكه. حي لا لون له، باهت كما حياة قاطنيه.
لقد وظف بنميلود لغة عارية من السجع والصور البلاغية والشاعرية، رغم حضور التشبيه داخلها بكثافة، لكنها تشبيهات قريبةٌ من ماكياج الشيخات الرخيص الذي يباع في الأسواق الأسبوعية وعلى الأرصفة بدرهمين لكل شيء. و شبيهة بطلاء أظافر العاهرات المقشر وكحل أمهات الحبّاسة الملخبط على الخدود دائما بفعل دموع حارة. بعيدةٌ عن ماكياج الصالونات الثقافية، ومانيكير وبديكير نجمات السينما المستوي بعناية، وعكر الأستاذات الجامعيات الأربعينيات المطلقات. وشاعرات كعب غزال.
لغة حادة كسكين الجزار، وعنيفة كمواجهات العصابات، ومباشرة وحارقة كالحقيقة.
وكما ترك لنا الراحل محمد شكري عبارته الخالدة "لقد فاتني أن أكون ملاكا" في خالدته الخبز الحافي، ختم بنميلود حيّه الخطير، محتفيا بتيمة الهرب، والتي لا شك أنها هي قضية القضايا لدى الشباب، والشعب المغربي برمته، بل والإنسانية قاطبة :
"أنا حي فقط لأهرب
إنها مسالة وقت فقط !
الحي الخطير، رواية تُقرأ في الحي الجامعي (الذي بدوره خطير جدا)، أو على هضبة جبل الرّايسي، أو في مقهى حقير داخل درب لا يمر منه الغرباء، أو بار شعبي، أو في كوخ عاهرة أو في زنزانة. لا تُقرأ في حيّ أكدال، ولا في حيّ الرياض.. ولا في الجنّة !
©️ Copyright Pulse Media. Tous droits réservés.
Reproduction et diffusions interdites (photocopies, intranet, web, messageries, newsletters, outils de veille) sans autorisation écrite.