المساواة في الإرث (ج.2) : مقدمة منهجية
بعد أن طرحنا في المقال السابق إشكالية العوائق الابستمولوجية التي تحيط بموضوع المساواة في الإرث، يصبح من الضروري تناول المنهج والرؤية اللتين سنصدر عنهما.
إن إشكالية الإرث لا ترتبط بالمستوى الديني فقط، بل تتجاوز هذا البعد للمنظومتين الاجتماعية والاقتصادية، وذلك لارتباطها بعنصر مهم جدا وهو توزيع الثروة الذي يعد واحدا من أهم الاشكاليات التي تطرح داخل أي منظومة فكرية أو اجتماعية أو دينية أو سياسية، بالنظر الى تداخلها مع مستويات متعددة تنعكس على كافة البنى والأنساق، ولعلاقتها الجدلية بطبيعة البناء الاجتماعي والاقتصادي داخل المجال الذي تمتد فيه المنظومة.
وبما أن النقاش يتفاعل اليوم داخل المجتمعات التي تستمد تشريعاتها من النصوص الإسلامية، فإن النقاش لابد أن يكون من داخل هذه المنظومة، عبر إعادة مساءلة سياقاتها التاريخية والدينية وسيرورة تشكلاتها –بالجمع لا بالمفرد.
كانت مسألة توزيع الثروة واحدة من أهم القضايا التي طرحت نفسها داخل المجتمع الإسلامي الوليد خلال الفترة النبوية، والمتميز آنذاك بتنوع كبير في الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، بشكل قد يخلق نوعا من التضارب في المصالح والغايات، لهذا وفي سياق محاولة "تآليف" هذه التشكيلة الاجتماعية الغير مندمجة –وهو ما سنعود له بتفصيل في المقالات السابقة- سيفتح التشريع الإسلامي وينوع من أبواب جمع الثروة داخل المجتمع، كما تعدد المستفيدون منها، فنجد من ذلك الزكاة والركاز والفيء والغنائم والأنفال والمكوس والعشور، هذا على المستوى العام، أما ما يخص الفرد فقد فتح التشريع الإسلامي كل المصادر الممكنة لملكية الثروة، ولإعادة تزيعها في الآن ذاته، من خلال تشريع الوصية والتوسيع في لائحة المستفيدين منه، وإن كان قد أقر مجموعة مباديء أخلاقية (تجنب الربا، والسرقة أو أن تكون من أنشطة محرمة...الخ)، إضافة إلى كل ما تتيحه الصناعات والتجارة...الخ.
هذا التعدد في منافذ ملكية الثروة طرح مسالة توزيعها وبشدة منذ البدايات الأولى للإسلام، وأحيانا كثيرة ما أخذ طابعا توتريا كان يستدعي تدخلا قرانيا، مثالا على ذلك الخلاف حول توزيع الأنفال -أو بتعبير معاصر الغنائم الحربية- حتى نزلت عدة نصوص تفصل في الأمر بشكل قطعي وحاسم وواضح، وكذلك في الديات والصدقات والعطاء.
وبتعدد أبواب الثروة في التشريع الإسلامي وتوزيعها والمستفيدين منها والمتدخلين في العملية ككل، تعددت القراءات والاجتهادات خاصة مع امتداد بقاع الامبراطورية الاسلامية، وتعدد أوجه الملكية والتحولات السوسيولوجية العميقة التي مست كافة البنى والأنساق المشكلة للمجتمعات الاسلامية، إلا أنه وبرغم تعدد مداخل الثروة وإعادة تملكها أو توزيعها، فإن الإرث يبقى أبرزها وأكثرها حضورا بسبب ارتباطه بالبناء الاسري، ما يلمس بشكل مباشر قلب النسق الاجتماعي داخل المجتمع في تداخله مع الاقتصادي والديني...الخ.
ولهذا فإنه من الطبيعي أن نجد الإرث عبر تاريخ الفقه الاسلامي محلا لتعدد وتنوع الاجتهادات والتشريعات الفقهية، والتي كانت وبلا شك متأثرة بالبنى والأنساق السياسية والفكرية السائدة.
وفي خضم التحولات التي يعرفها العالم المعاصر، فإن مسألة توزيع الثروة، وخاصة الإرث تضعنا أمام عدد من التنائيات ذات الطبيعة الإشكالية، فمن ناحية كيف يمكن حل التناقض بين ما تتطلبه الالتزامات القانونية والحقوقية للمنظومة الحقوقية المعاصرة وبين التشريعيات الفقهية؟ ومن جهة أخرى كيف يمكن حل اشكالية التقليد/الاجتهاد؟ خاصة مع ما يتجه إليه أغلب الفقهاء التقليدانيون من اعتبار أن نصوص الارث قطعية الدلالة والحكم ولا مجال للاجتهاد أو مراعاة التحولات المعاصرة؟ وهل فعلا أن الأمر كذلك أم أنه قد حدث نوع من التجاوز على حقائق دينية وتاريخية عديدة؟ ما هو الثابت والمتحول في إشكالية توزيع الثورة داخل المنظومة الإسلامية؟ كيف جاء ميلاد هذه المنظومة؟ وهل شكلت ثورة على المنظومة التقليدية أم أنها جاءت استمرارا لها؟
هي أسئلة واشكاليات تطرح نفسها وتشكل تأطيرا منهجيا لمقاربة هذا الموضوع، عبر استقراء تاريخي لتاريخية تشكل الثروة في ارتباطه بالتشريع الإسلامي، والبحث عن البنى والأنساق التي ارتبطت بها وكيفية تكوينها وتشكلها، واستقراء النصوص الدينية المؤطرة للثروة ككل وللميراث لاستنباط الثابت والمتحول داخل بنيتها، هي مقدمة منهجية إذا لما سيلي من حلقات.
©️ Copyright Pulse Media. Tous droits réservés.
Reproduction et diffusions interdites (photocopies, intranet, web, messageries, newsletters, outils de veille) sans autorisation écrite.