البث المدروس لشريط فيديو بنكيران يكشف حجم الأزمة السياسية التي تمر منها البلاد
التمهيد لنشر شريط الفيديو كان جد مدروس، فقد قامت لجنة الإعلام بحملة ترويجية مكثفة على مواقع التواصل الاجتماعي، مفادها أن الأمين العام لحزب العدالة والتنمية رئيس الحكومة المُعيَّن، سيلقي كلمة ستبث على الموقع الرسمي للحزب يوم الاثنين الموافق للرابع عشر من نونبر على الساعة الثامنة مساء. الهدف من هذه الحملة الترويجية المكثفة؛ إعطاء أهمية قصوى لهذه الكلمة.
في الموعد المحدد، ظهر بنكيران على الشاشة بملامح صارمة وخلفية موسيقية منذرة. إنه ليس بثا مباشرا بل شريطا مسجلا منذ الخامس من نونبر أمام اللجنة الوطنية للحزب. لهذا التاريخ أهميته الواضحة، فقد سبق بيوم فقط الخطاب الملكي الذي ألقي من داكار بمناسبة الذكرى الواحدة والأربعين للمسيرة الخضراء.
محاولة انقلاب على نتائج الانتخابات
استهل رئيس الحكومة كلمته بتقديم الشكر للملك محمد السادس على تكليفه بتشكيل حكومة جديدة "رغم محاولات الانقلاب على نتائج الانتخابات"، التي بدأت مباشرة بعد الإعلان عنها -على حد تعبيره- مستشهدا بمذكرة كانت موجهة للملك أعرب البعض فيها عن رفضهم "التعامل مع هذا الطرف أو ذاك أو مع مثل هذا الرئيس". ومحاولة أخرى وفق بنكيران تتمثل في تعيين رئيس لمجلس النواب قبل تشكيل الأغلبية : "كانوا غادي يربكو كلشي لأنهم كون داروها كان غادي يكون عندنا رئيس ديال مجلس النواب، أنا مغنكوّنش أغلبية، أشمن أغلبية غنكوّن ديك الساعة؟" يؤكد بنكيران مستحضرا الأسوأ : "غادي نمشي عند سيدنا نقول ليه نعام أسيدي صافي هادو راهم دارو أغلبية ديالهم أنا را منديرش أغلبية انتهى الكلام (...) الحمد لله داكشي ديالهم كلو فشل".
رسالة بنكيران جاءت اليوم كصدى لخطاب محمد السادس الذي كان قد أملى فيه التوجه المستقبلي للحكومة : "إن المغرب يحتاج لحكومة جادة ومسؤولة. غير أن الحكومة المقبلة، لا ينبغي أن تكون مسألة حسابية، تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكأن الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية"، كما جاء في مقطع معبر لخطاب الملك اكتسى نبرة منبهة موجهة قبل كل شيء إلى المكلف بتشكيل الحكومة منذ فوزه بانتخابات السابع من أكتوبر الماضي. يضيف الملك : "بل الحكومة هي برنامج واضح، وأولويات محددة، للقضايا الداخلية والخارجية (...) حكومة قادرة على تجاوز الصعوبات التي خلفتها السنوات الماضية، في ما يخص الوفاء بالتزامات المغرب مع شركائه".
أعلن بنكيران بشكل واضح عبر هذا الشريط أن المغرب يعيش أزمة سياسية، ملقيا كل اللوم على الأطراف الأخرى التي لم تتصف في نظره بالعقلانية أثناء المشاورات التي جمعته بها. لتأكيد هذا الطرح الذي يبرئ حزبه ويحمل باقي الأطراف مسؤولية تعثر تشكيل الحكومة، استرسل بنكيران في سرد بعض العراقيل. من بينها تحالف حزب التجمع الوطني للأحرار بالاتحاد الدستوري : "الإخوان ديالنا ديال الأحرار وهوما كانوا معطوبين ديك الساعة معندهمش الرئيس مشاو جابوا معهم الاتحاد الدستوري وجاني هادشي شوية bizarre"، كما جاء على لسانه. مضيفا أن الحركة الشعبية صرحت بعدم قدرتها على اتخاذ قرار دون الرجوع إلى الحزبين. كما أشار بنكيران أيضا إلى أن علاقته بعزيز أخنوش جيدة جدا سوى أن الشروط التي جاء بها هذا الأخير "غير مقبولة".
بعد ذلك خلص زعيم البيجيدي إلى أنه تعلم درسا مهما بعد هذه الانتخابات يتمثل في :
أولا : "خاصنا نحتارمو الإرادة ديال المواطنين اللي صوتوا علينا"
ثانيا : "مهم أن نشكل الحكومة بالنسبة للبلد ومهم أن نشكل الحكومة بالنسبة للحزب ديالنا ولكن الحفاظ على المبادئ أهم".
ومن أجل تحقيق كل ذلك بالنسبة لبنكيران لا يجب قبول أي تنازل من طبيعته أن لا يحترم إرادة المواطنين : "مغنقبلش شي واحد، شكون ما كان، يجي ويهين الإرادة ديال المواطنين ويبدا كيتصرف معايا فهاد الحكومة وكأنه هو الرئيس ديال الحكومة ماشي أنا"
داخل حزب البيجيدي، الطرح القائل بصراع بين الحزب والقصر غير وارد
الحساب هو أساس الديموقراطية كما جاء على لسان بنكيران في الشريط، لشرح ذلك قدم مثالا مضادا مذكرا بما قام به حزبا البام والاستقلال في تازة : "إلى قريتينا ملي كنا صغار بلي 47 كبر من 15 ويلا جينا للانتخابات رديتي 15 تتغلب 47 Ça ne va plus (...).لأنه الماط هو الأساس ديال العلوم". بهذا المنطق يفهم البيجيدي نتائج الإنتخابات : "الديموقراطية هي هذه والديموقراطية ماشي انتاصرات للعدالة والتنمية بمقعد ولا مقعدين، انتاصرات لو بـ 125 مقعد، وإلا حتى حنا غادي نكونو كنساهمو فالإهانة ديال المواطنين" بانفعال، حاول إيصال الفكرة إلى بعض الأطراف التي تسعى في نظره إلى الانقلاب على هذا المبدأ الذي يعتبره أساسيا.
باعث على الغرابة أن نستنتج اليوم بعد بث شريط بنكيران أن خطاب الملك جاء مناقضا لكلام رئيس الحكومة الذي سجل يوما قبل إلقاء الخطاب.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل كان بنكيران على علم مسبق بالتوجهات الممكنة للخطاب الملكي؟ هل كان ذلك هو التوجه الذي أخبره به أخنوش بعد لقائهما من أجل المشاورات؟
لوديسك اتصل بوزير سابق رفض تقديم أي تأويل يخدم منطق خلاف بين الحزب والقصر. فبالنسبة إليه بث هذا الفيديو يندرج في سياق وحيد هو "آخر مستجدات مشاورات تشكيل الحكومة مع الأحزاب الأخرى لا غير"
بانزعاج واضح، توجه بنكيران بكلامه أيضا إلى حزب الأصالة والمعاصرة، مشككا في قدرته على مضاعفة عدد مقاعده منذ 2011 إلى اليوم (بطريقة نزيهة) : "شنو دار هاد الحزب للمغاربة حتى ضاعفوا ليه النتيجة شنو دار؟"، يتساءل رئيس الحكومة. " تكلم مع الناس على الكيف تكلم معهم على محاربة الإسلاميين، هادشي لي دار، هادشي لي باقي عاقل عليه أنا (...) ولكن جاب 102" مؤكدا أن الحكم لا يكون بالنتائج فقط، بل : "شتان بين 125 و102 ماشي من حيث العدد ولكن من حيث الطريقة لي كل وحدة كيفاش تحصلات"
بالنسبة لحزب الاستقلال، الذي يحاول أخنوش إقصاءه لصالح حزبي الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية، أصر بنكيران على تأكيد أنه لن يتخلى عن حليفه بسبب "موقفه الشجاع" الذي وصفه بـ "صعيب فالمغرب" وهذا رغم الاختلافات التي عاشها الحزبان من قبل؛ التوترات التي أصبحت جزءا من الماضي : "داكشي داز"، وذكّر بأن حزب الميزان كان قد رفض الاتفاق على المذكرة التي دعت لها أحزاب المعارضة إضافة إلى حزب الأحرار كما رفض المساهمة في مهزلة انتخاب الحبيب المالكي على رأس مجلس النواب من طرف الاتحاد الاشتراكي قبل تشكيل الحكومة.
بملامح قاتمة وصوت منكسر، دعا الأمين العام قياديي حزبه أن يظلوا مجتمعين ومتضامنين باسم : "القيم لي غادين تأكدوها فهاد المجتمع وتخليوها ملي تمشيو". ولكي يوضح ذلك ضرب مثلا ببناء قناطر وطرقات كبيرة أنها لن تصمد طويلا حين : "تضيع القيم والله لا بقات لك، لأن هادوك لي غيتكلفوا بـ l'entretien ديالها ne vont pas bien le faire ولخرين لي غادين ياخدوا الرشوة مغديش كذا الخ" إلى حين يُسيَّرُ في نظره كل شيء من طرف سياسيين متشبعين بالقيم وبالعدالة. إنه تعبير مجازي يقصد به خصومه التكنوقراطيين.
بعد انتخابات 2011 التي أجريت خلال الربيع العربي، تفاعل الحزب مع السياق بأخذ مرحلة الأزمة بعين الاعتبار مقدما بعض التنازلات. بينما في 2016 لم يعد الحزب يقيم اعتبارا "إلا للقيم". يلمح بنكيران عبر ذلك إلى أنه بعد نجاحه الثاني لن يقبل هذه المرة بتنازلات قد تؤدي به إلى فقدان سُلُطاتِه الحكومية.
ختم بنكيران كلامه برسالة صارمة داعيا حزبه وأنصاره إلى التضامن في كتلة متماسكة لصالح هذه المبادئ، مهما كانت النتائج.
بث هذا الفيديو أسبوعا بعد تسجيله وبعد الخطاب الملكي، ليكشف لنا اليوم حقيقة غير معترف بها : الأزمة تتعدى الدائرة الحزبية. ما يسلط الضوء على خلاف بنكيران وحزبه بشكل معلن تجاه عزيز أخنوش وبطريقة غير معلنة تجاه الرؤية الملكية.
إذا كان البيجيدي قد بث هذا الفيديو للعموم فليس ليعلن فقط أن تشكيل الحكومة قد وصل إلى طريق مسدود وإنما أيضا ليشير بقوة إلى أن كل المشجعين والمدافعين عن رأي مخالف لتوجهه وحلفائه إنما يقومون بذلك ضد إرادة الشعب.
بلعب هذه الورقة، يختار بنكيران المواجهة عن طريق التحذير. إن لم يعترف بالهزيمة، وهذا مسبتعد، فقد اختار طريقا وعرة قد تنتهي بسقوطه أو بعدم استقرار سياسي دائم.