خدعة ميلان المغرب بتواطؤ مع أنس الدكالي

"لقد أنشأت ميلان مصنعا جديدا"، هكذا صرح مدير الأدوية والصيدلة بوزارة الصحة، جمال توفيق للوديسك، حتى يطمئن الرأي العام حول قراره بالتصريح "لفرع" هذا المختبر الأمريكي المستقر بالهند بطرح دواءه "ماي هيب أول"، مضاد لالتهاب الكبد الوبائي (س)، في السوق المغربية بحجة أنه سيتم عما قريب، تصنيعه محليا. وقد أكد المسؤول أنه "ضغط" على ميلان لتحقيق ذلك...
وكان التحقيق الذي كنا ننوي نشره بعد لقاءنا مع مدير الادوية والصيدلة ، يكشف الرغبة الغريبة والملحة للسلطات الصحية لإعطاء مصداقية "للمختبر الشبح"، ميلان المغرب، الذي وصمناه بهذه الصفة في مقال سابق.
حملة تضليلية للصحافة
لقد أدى كشفنا لمجموعة من الحقائق إلى ردِّ فعل غير متوقع، ففي 17 من يوليوز، تمت دعوة الصحافة لزيارة ما قدمه سهيل تبيب، رئيس ميلان التونسي الجنسية، "كأول وحدة صناعية بالمغرب انطلقت منذ ماي 2019".
"بذرة المجموعة في إفريقيا الشمالية"، هي وحدة تتواجد بمنطقة ليساسفة بضواحي البيضاء، وتتجلى في جناح من بناية يستعمل كمخزن لشركة من القطاع الصحي، بروماميك (فارمابروم).
وقبل زيارة الصحافة بأيام قليلة، لم تكن هناك أية إشارة أو علامة خارجية تشير إلى وجود ميلان على واجهة المبنى الذي تم كراؤه جزئيا، إذ يضم أيضا صيدلية ووكالة للأسفار على واجهته، كما عاين ذلك لوديسك.
ويوم المؤتمر الصحفي، تم تثبيت اسم ميلان تحت لافتة لبروماميك (موزع للأدوات الطبية)، الذي يتواجد في الشارع المحاذي للموقع لأجل توجيه الصحافيين الذين تنقل معظمهم إلى عين المكان في حافلات، إذ تعذر وصف الموقع لهم نظرا لصعوبة الوصول اليه.
وفي الواقع، عوض مصنع بمعايير صناعية نظامية ومتعارف عليها، وجدنا أنفسنا أمام مدخل صغير للمستخدمين يطل على زاوية مغلقة من البناية حيث تم تثبيت اسم الشركة حديثا، وعند دخولنا المبنى وجدنا ردهة حيث تم استقبال الزوار يحدها بَابٌ دَوَّارٌ. ثم وجدنا لافتة زجاجية لَخَّصَتْ الوضع بشكل يدعو للسخرية : إذ يختزل المصنع بأكمله في طابقين، الأول يضم " وحدة الانتاج وقاعة التثبيت ومستودع العينات الصيدلية" والطابق الثاني يضم "وحدة الانتاج ومختبر مراقبة الجودة وقاعة للعرض التقني".
وحسب إدارة ميلان المغرب، تمتد الوحدة على مساحة 1500 متر مربع، دون احتساب 900 متر مربع أخرى محجوزة. وتطرح أسئلة عديدة حول هذا المصنع المُفَبْرَك الذي "سيخصص انتاجه لتغطية السوق المغربي" مع إمكانية التصدير إلى مصر وإلى أسواق ناشئة أخرى.
غياب تام للمسؤولين الرسميين...
تم استعجال هذا التدشين حسب اعتراف تبيب نفسه للوديسك، بعد المقال الذي نشرناه في السابق عن هذا المصنع. ولم تسجل هذه المناسبة حضور أي مسؤول رسمي لا مغربي ولا أمريكي ولا هندي، رغم ما هو متعارف عليه في هذا النوع من المناسبات، على غرار افتتاح مصنع "سيبلا" بعين عودة في أكتوبر الماضي، حيث حضر مسؤولون عن وزارة الصحة والصناعة (غالبا من مستوى وزاري)، وكذا ممثلو الدول الاجنبية المعنية، وزملاء من القطاع، وخاصة ممثلين عن الشركة الأم. وبما أن الأمر يتعلق هنا بأول وحدة إنتاجية في بلاد أجنبي، كان من المفروض حضور ممثلين عن الشركة الأم على الأقل...
ولم يصدر أي بيان صحافي لميلان على المستوى الدولي لإعلان افتتاح هذا الفرع من بين47 موقع آخر يتوفر عليه عملاق تصنيع الأدوية عبر العالم...
وهكذا استغلت ميلان المغرب بحذاقة الاعلانات التي روجت لها الصحافة. أولا، فيما يخص "وجودها القوي في المملكة منذ 2001" حسب ما يشير إليه بيانها، في الواقع، كي تستقر هذه الشركة بالمغرب لم تلجأ إلى ضم المختبر المتواضع "ميرك جينيريك" إلا سنة 2006".
ثانيا، فيما يخص استثماراتها، تؤكد الشركة أن "إنشاء وحدة جديدة لصناعة الأدوية بالمغرب تشكل قطبا جديدا لاستراتيجية ميلان في المملكة، وذلك بتسخير مبلغ 120 مليون درهم على الفترة الممتدة بين 2013 و2023، وسيتم استثمار نصف هذا المبلغ في غضون نهاية 2019".
ولم تترد الصحافة على غرار" ليكونوميست" من عنونة مقال لها ب"ميلان تستثمر 120 مليون درهم بالمغرب" وإضافة أنه "عبر هذه الوحدة الانتاجية النوعية" فإن "المجموعة الأمريكية تراهن على الدار البيضاء لطرح دواء بسعر تنافسي ".
تَحْوِير في صياغة المعطيات المالية...
وحسب المعلومات حول الوضعية والصفة القانونية لميلان المغرب التي عاينها لوديسك، ففي 2018، لم يطرأ أي تغيير سوى تحويل مقر الشركة الى عنوان آخر، دون أية زيادة في رأسمالها والذي يعتبر مؤشرا على بناء مصنع. فرأسمال ميلان المغرب لا يتعدى 3,5 مليون درهم. بينما تم الترويج للمصنع كوحدة صناعية على أحدث مستوى، إذ ان ممتلكات ومعدات ومنشآت الشركة... منعدمة. وبلغت تكلفة موظفيها 438.000 درهم أي بنسبة1 % من رأسمالها (47 مليون درهم)، وهو مبلغ يتم تحصيله بالكامل عبر أنشطة الاستيراد.
أضف الى هذا أن ميلان كانت بالكاد تُلَمْلِمُ نفسها عند تعيين سهيل تبيب على رأسها سنة 2016، معوضا الهندي أنيرود ديشباند، مدير والتصدير الأسواق الناشئة بمختبرات ميلان بالهند. وصادف تولي تبيب للإدارة ارتفاع مفاجئ لرقم معاملات الشركة من 8 الى 38 مليون درهم، أي زيادة ب+380 % في غضون سنة واحدة.
وهي إذن، استراتيجية من شأنها إغراق السوق المغربي بمنتوجات هندية عوض "استقرار مستديم" للشركة بالمغرب، كما تزعم ميلان.
ولا تغفل عين الزائر الحَذِق من ملاحظة أن الديكور الذي تم تهيؤه للصحافة يخفي بشكل مُتَعَثِّر ثغرات الخدعة. "الآلة العجيبة" لإنتاج "الوحيدة بالمغرب" حسب أقوال سهيل تبيب ورئيسة صيدليته، غيثة السفار، ليست سوى خَطً لتصنيع عقاقير تم استيرادها من الهند.
وليس صدفة أن بيان الشركة يعلن أن قدرة الوحدة بكاملها تقتصر في انتاج "60 عبوة في الدقيقة". ولا نجد من مختبر المراقبة سوى بعض الرفوف التي تتواجد عليها أجهزة عتيقة للرصد اللَّوْنِي وصلت حديثا من الهند من أجل العرض... هذا دون أن نتمادى ونحلل الثغرات الواضحة " في احترازات سلامة الإنتاج"، اللازمة لأجل تفادي تعفن المنتوجات حتى إن كانت مكتملة التصنيع...
لقد وضعت ميلان المغرب "منذ 2013، ملفا لدى الأمين العام للحكومة من أجل خلق وحدة إنتاجية صيدلية. ومكن الحصول على تصريح نهائي في فبراير 2016، من تسريع سيرورة تطوير ميلان المغرب، وتوج هذا التطور ببدء التصنيع المحلي للأدوية في ماي 2019"، حسب ما ورد في بيان الشركة. وفي الواقع منذ أربع سنوات، لم تستثمر الشركة درهما واحدا في المشروع بل على العكس، استوردت أدوية بكثافة بفضل تواطؤ السلطات الصحية للبلاد، التي منحتها بشكل غير قانوني صفة مؤسسة لصناعة الادوية.
امتيازات الدكالي" للمختبر الشبح"
والأدهى من هذا، أن أنس الدكالي ومدير مديرية الأدوية بالوزارة، منحا هذه الشركة فرصة لتأجيل آجال الدفع، مما يؤكد صفة "المختبر الشبح" التي قرناها به. وعلى هذا الأساس، بتمكين ميلان المغرب من هذه الامتيازات، ادعت الشركة على صفحات "ليكونوميست" أنها سمحت للدولة من توفير من 100.000 درهم للمريض الواحد المصاب بالتهاب الكبد الوبائي(س)، بفضل الحصول على تصريح خاص لاستيراد "دوائها المعجزة" بتركيبته (صوفوبيفير + فيلباتايفير).
وعلى عكس ما تدعيه ميلان، لا يمنح هذا الدواء المريض أية امتيازات مقارنة بالتركيبات الأخرى المنتجة في السوق المغربية. إذ أن العلاج المصنع بالمغرب بثمن استشفائي لا يكلف سوى 8000 درهم كحد أقصى لمدة ثلاثة أشهر...
وحتى حجة استفراد تركيبتها "ماي هيب أول"، بتغطية مجموع الأنماط الوراثية لالتهاب الكبد الوبائي (س)، الذي ضجت به الصحافة، غير صحيح. فحسب عدة خبراء سألهم لوديسك، فإن "التركيبة المتوفرة بالمغرب منذ ما يزيد عن ثلاثة أعوام تعالج كل الأنماط الوراثية الست للكباد، ولم تعد هناك ضرورة للقيام بتحاليل للأنماط الوراثية منذ زمن بالمغرب" يؤكد أحد الخبراء، مستشهدا بوثائق صادرة عن منظمة الصحة العالمية.
والحال أنه كما أوضحنا في مقالنا السابق، أن مسؤولي وزارة الصحة تركوا عددا من المرضى التابعين لنظام الراميد خلال ثلاث سنوات بدون علاج.
وفي أكتوبر 2015، أي قبل شهرين من تسويق "سوفوسبيفير" بالمغرب، قام وزير الصحة الاسبق بشراء مخزون مهم من "بيغ انترفيريون"، من مختبر" روش"، وهو العلاج السابق لالتهاب الكبد الوبائي (س)، علاج أقل فعالية ويتطلب وقتا أكثر للعلاج كما أن تأثيراته الثانوية متكررة وأكثر خطورة بينما التأثيرات الجانبية للعلاج الجديد نادرة وأقل خطورة.
وفي الفترة الممتدة ما بين 2016 إلى منتصف 2017، تم علاج مرضى القطاع الخاص بجزيئات من أحدث العلاجات بينما المرضى التابعين لنظام الراميد فقد تم علاجهم ب" بيغ أنترفيرون"، رغم استبداله في أنحاء العالم لعلاج التهاب الكبد (س). وبعد انتهاء مدة صلاحية مخزون "بيغ أنترفيرون" في منتصف 2017، وبعد 18 شهرا من العلاج لم يقترح أي دواء بديل للمرضى التابعين للراميد، بل تركوا في مواجهة الموت...
ولتعليل هذا الوضع الكارثي، أعطت الدولة انطلاقة أول دراسة لرصد انتشار المرض في أبريل الماضي... في انتظار أن تستقر ميلان؟
وفي يونيو 2019، أعلنت ميلان للأدوية بالمغرب، أنها ستستثمر 60 مليون درهم في غضون نهاية 2019، لأجل مقر إنتاجها المحلي" هذا ما نجده في تقرير حديث لفيتش سليسيون حول القطاع الصحي بالمغرب. وهو مجرد حبر على ورق بعد مهزلة تدشين مصنعه.
وللمقارنة فقط، بينما أعلنت ميلان المغرب انها ستصنع أيضا "بيوسميلار" في ورشها بليساسفة، دشن مختبر "سوتيما"، في نهاية يناير، في موقعه ببوسكورة وحدة انتاجية جديدة للأدوية المضادة للسرطان من خلال التكنولوجيا الإحيائية باستثمار قيمته 60 مليون درهم. وبهذه المناسبة، هذه المرة مناسبة حقيقية، حضر أنس الدكالي وزير الصحة ومولاي الحفيظ العلمي وزير الصناعة لأجل تدشين الموقع...
والنتيجة أن أي مصنع حديث العهد للأدوية يتطلب على الأقل فترة تتراوح بين ثلاث الى اربع سنوات حتى تَسْتَتِبَّ أموره، وهذه الفترة الانتقالية" التي سيقوم خلالها ميلان باستيراد "ماي هيب أول" بموافقة وزارة الصحة غير محددة... وبالتالي وفي نهاية المطاف، سيكون المستفيد الأول من هذ الوضع هو الأمريكي "جيليد" الذي لم يستطع الولوج الى السوق المغربية، لأن ميلان حصلت من "جيليد" منذ 2014، على حقوق تصنيع و توزيع تركيبة دواءها الموجه إلى الدول الفقيرة... وهو نشاز في بلد كالمغرب، الذي اعْتُبِر في هذه الحالة كسوق من الدرجة الثانية، بينما تم إقصاء صناعته المحلية القادرة على التصنيع...
وحسب معلوماتنا، فإن قضية ميلان تهم العديد من النواب من أحزاب مختلفة المُصِرِّين على سؤال الوزير ومديره حول هذه القضية التي لم يتم طيها بعد. وذكر أحد هؤلاء أن "28 يوليوز، هو اليوم العالمي لالتهاب الكبد الوبائي" مشيرا إلى ما سيأتي...