رجاء… لا تجعلوا الوطن صحنا طائرا
قبل سنوات وبالضبط خلال افتتاح السنة التشريعية 2014، شهدت أروقة مجلس النواب مباراة في الملاكمة بين عزيز اللبار وحميد شباط عقب الخطاب الملكي الذي دعا فيه إلى التزام النواب بالقوانين والأخلاقيات، مرت الأيام وعاد شباط ليترأس أنصاره في "موقعة الصحون الطائرة" ضد أنصار غريمه نزار البركة.
ما بين مباراة الملاكمة في البرلمان وموقعة الصحون الطائرة في مركب الأمير عبد الله، دارت رحى معارك كثيرة، أصبح فيها من العادي رؤية السلاسل والهراوت والكلاب المدربة والبلطجية وهم يقتحمون مقرات وقاعات المؤتمرات واللقاءات الحزبية -وحتى المدنية- ليكون العنف بذلك هو الفيصل في رسم معالم الحياة السياسية، والأنكى أن الأمر لم يعد يثير حتى الاستهجان بل أصبح عنوانا كبيرا "للزمن السياسي الرديء".
ما حدث خلال مؤتمر حزب الاستقلال وما قبله ليس استثناء، ولكنه مجرد مشهد من حلقة في مسلسل إفساد الحياة العامة، الذي رعته الدولة التي رأت أن وجود فاعلين أقوياء ومستقلين عن إرادتها تهديد لهيبتها –بل ولبنيتها- فانطلقت في مسلسل الإفساد الذي اتخذ تجليات عدة شابها في أحيان كثيرة ضحك كالبكاء من فرط ما جمعت مشاهده من ضحك حد الهستيريا وبكاء على حال وطن في مهب ريح، فكانت مشاهد من قبيل منتخبي الأحزاب الإدارية –الذين فرختهم الدولة لضرب اليسار وكل القوى الحية- وهم يرمون العار على ساكنة أحزمة البؤس في المدن أو القرى ويقدمون لهم الذبائح مقابل أصواتهم، مرورا بكل مشاهد الفساد والصعود بكائنات طفيلية لتحتل الواجهة برغم ملفات فسادهم التي أزكمت الأنوف، وصولا إلى تمييع الحياة السياسية بكائنات تلخص كل معاني التفاهة والانحطاط، وتسويقها كنموذج ناجح بغية التأسيس لنموذج اجتماعي جديد تتمثل فيه كل قيم الوصولية والانتهازية والفردانية، وتمنح له كل فرص الترقي والصعود، حتى غدا العنوان الأكبر لهذا الزمن "كن منحطا .. كن فاسدا .. كن تافها .. تكن ناجحا".
في الآن ذاته، جرى التضييق على الأصوات الحرة، وتشويه سمعة من لازال يقاوم على الهامش رافضا أن يكون كومبارسا في مسرحية الإفساد السمجة، أو من استلهموا روح دونكيشوت ليحاربوا طواحين الهواء التي تعصف بكل شيء في حياتنا العامة، وترمي بالشرفاء في آتون التهميش وتقبر كل الكفاءات، وتقتل قيم التعليم والمعرفة وكل قيم الإبداع والإنتاج، حتى صار الوطن مقبرة للأحلام والآمال، ودخل في مرحلة سكون تقارب الموت، كانت الدولة المستفيد الأكبر منها.
لكن، ولأن الطبيعة تأبى الفراغ، ومادام السكون قدر الموتى وليس الأحياء، فقد جاء حراك الريف بغتة، ليلقي حجرا ثقيلا في بركة الحياة العامة الآسنة في بلادنا، ويكشف فشل كل آليات الوساطة التي سبق أن ميعتها الدولة، لتجد نفسها في مواجهة مباشرة مع الحراك، بيد أنها وعوض أن تلتقط الإشارة وتستوعب الدرس، وتفهم أن هيبة الدولة لا تتحقق بسيادة التفاهة والانحطاط والتردي، وأن الوهم الذي سيطر عليها بقدرتها على احتواء أي هبة اجتماعية او حركة احتجاجية قد تلاشى مع حراك الريف، عوضا أن تفهم هذا، بادرت إلى استخدام قبضتها الحديدية –التي يبدو أنها لم تعد تملك غيرها- وهو ما ستكون تبعاته أكثر بكثير من مسبباته داخليا وخارجيا، مواصلة في الآن ذاته مسلسل الإفساد دون وجل من الآتي.
قيل قديما "عدو عاقل خير من صديق جاهل"، لكن يبدو ألا أحد من القائمين على هندسة مسار إفساد الحياة العامة قد التقط هذه الحكمة، وعرف أن صولة الدولة لا تكون على حساب استقرار الوطن، وأن استقرارا مبنيا على التفاهة والتمييع والانحطاط، يوازي الصحون الطائرة التي تقاذفها أنصار شباط والبركة، تحلق قليلا ثم تسقط أرضا، فإما أن تصيب هدفها –وهو أمر نادر الحدوث- وإما ألا تصاب بأذى،لكن الاغلب أنها تقع ارضا فتنكسر أشلاء صغيرة يستحيل جمعها.
رجاء... لا تجعلوا الوطن صحنا طائرا
©️ Copyright Pulse Media. Tous droits réservés.
Reproduction et diffusions interdites (photocopies, intranet, web, messageries, newsletters, outils de veille) sans autorisation écrite.