شقاء الوعي التاريخي الإسلامي المزيف
يقف المتتبع لتاريخ المجتمعات الإسلامية على مدى سطوة التاريخ وحضوره الكبير في حاضر هذه المجتمعات ومستقبلها، إذ أنها تقوم بعملية إسقاط ل"ماضيها" على الحاضر والمستقبل، داخلة بذلك في حلقة مفرغة تنظر من خلالها إلى مستقبلها انطلاقا من تاريخها، ما جعلها تسير عكس مدار التاريخ، معاكسة المسار البشري ككل، الذي يفترض فيه ان يكون المستقبل امتدادا للحاضر الذي يشكل بدوره امتدادا للماضي، إلا عند المجتمعات الإسلامية التي اتخذت مسارا نكوصيا جعلها تنظر بعين الماضي الى الحاضر والمستقبل.
هذا الوضع اشتدت وطأته وازدادت حدة أزمته مع ظهور الحركات الأصولية وتناميها، إذ أنها شيدت بناءها النظري وأطروحاتها السياسية على تصور مثالي للتاريخ، ساحبة إياه على المستقبل دونما استحضار لتحول السياقات التاريخية، ليصبح المستقبل يوثوبيا مشكلة على ضوء تخيل ماض مثالي، يقف المتأمل له على عدد من المفارقات، تجعلنا نخلص إلى أن التاريخ كما تستحضره الحركات الأصولية لا يعدو أن يكون في عمقه تغييبا للوعي التاريخي، وتشييدا لبناءات مثالية لم تتحقق على صعيد الواقع، بل على صعيد الوجدان فقط.
يجد كلامنا هذا مشروعيته من خلال تأمل الادبيات السياسية والتاريخية لهذه الحركات، والتي تصطدم بعدد من الحقائق والوقائع التاريخية الموجودة في أمهات الكتب الإسلامية، بل إنها تلجأ إلى عملية التضييق والهجوم على كل من يستحضر ما تخفيه من وقائع وحقائق تاريخية، والأخطر من هذا قيامها بتقديم النسبي على أنه مطلق، وتغليفه بالقداسة وللتدليل على ذلك يكفي أن نتوقف عند فترة صدر الإسلام التي تعتبر النموذج المثال بالنسبة للمسلمين، والاساس الذي تمتح منه الحركات الأصولية على اختلاف برامجها ورؤاها، لنقف على هول التناقض بين ما هو موجود في التاريخ وما تقدمه الحركات الأصولية.
سيرة نبي لم تكتب
درجت الكتابات التاريخية والسياسية "الإسلامية" المعاصر على وصف فترة صدر الإسلام –أي فترة النبي محمد والخلفاء الأربعة من بعده (1هـ إلى 40 هـ) على أنها الفترة التأسيسية "للمشروع الإسلامي"، لدرجة تم إعلاء هذه المرحلة إلى درجة القداسة -عند السنة بالخصوص- واعتبار أي مساءلة أو نقد لها طعنا في الإسلام ومحاولة لهدم أركان الدين، واتجهت معظم اجتهاداتهم للبحث عن أسس هذا المشروع وإسقاطه على الحاضر، ومن ثم المستقبل الذي أصبح تمثلا لهذا الماضي.
بيد أن الحقيقة التي يتم السكوت عنها، هي أن تاريخ هذه الفترة لم يكتب إلا بعد أكثر من قرن من الزمان، إذ أن أول محاولة لتدوين سيرة النبي محمد كانت من خلال كتاب سيرة "ابن اسحاق" الذي دونه بعد أكثر من قرن من الزمان (حوالي 115 هـ) على وفاة النبي محمد (توفي 11 هـ)، وهذا الكتاب –أي سيرة ابن اسحاق- ضاع ولم يعثر له على أثر حتى جاء ابن هشام (توفي سنة 228 هـ) بعده بقرن من الزمان ليكتب لنا مختصرا لسيرة ابن إسحاق، بناء على ما نقله سماعا من البكائي تلميذ ابن اسحاق.
هكذا نقف عل الحقيقة الصادمة، وهي أن سيرة النبي المؤسس لم تكتب بشكل رسمي إلا بعد أكثر من قرنين من الزمان على وفاته، وبغض النظر عما يطرحه الأمر من أسئلة قلقة، فإن المثير هو أن ابن هشام يعترف بصريح العبارة في مقدمة كتابه أنه بتر أجزاء كثيرة من سيرة ابن إسحاق، إذ ورد في مقدمة سيرة ابن هشام "قال ابن هشام : وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ولده، وأولادهم لأصلابهم الأول فالأول، من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل، على هذه الجهة للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ، مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه ذكر ، ولا نزل فيه من القرآن شيء ، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب ، ولا تفسيرا له ، ولا شاهدا عليه ، لما ذكرت من الاختصار ، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها ، وأشياء بعضها ، يشنع الحديث به ، وبعض يسوء بعض الناس ذكره ، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له ، والعلم به".
يستوقفنا كلام ابن هشام أو الأصح اعترافه بأنه لم ينقل كل ما تركه ابن إسحاق، والأهم من هذا اعترافه الصريح ان سيرة ابن إسحاق –الأقرب لزمن النبي- لا تعكس الصورة الحقيقية للنبي محمد، بل إنها تتضمن "ما يشنع الحديث به ويسوء الناس ذكره"، وهذا ما يجعلنا نتساءل : هل لفق ابن إسحاق افعالا مسيئة للنبي؟ أم أنه ثمة حقائق ارتأى ابن هشام بحكم السياقات التاريخية خطورة ايرادها؟ وكيف لم يتنبه المسلمون إلى أهمية تدوين سيرة النبي المؤسس للتاريخ وللحضارة الإسلامية، رغم حضوره الرمزي والمادي الدائم؟ وبالتالي : هل نحن أمام سيرة حقيقية للنبي محمد؟ أم أنها لا تعدو أن تكون صوة تاريخية تشكلت على واقع الصراعات المذهبية بين المسلمين والسياقات التاريخية وتدخلات السلطة السياسية والفقهية أيضا؟ خاصة مع تناقض الصورة المنقولة في كتب التاريخ فيما بينها، وتضارب الروايات التاريخية بشكل يجعل من الصعب استجلاء الصورة الحقيقية وسطها.
روايات متضاربة وحقائق غيبتها الصراعات الأيديولوجية
يقف الباحث في التاريخ الاسلامي على اشكالية حقيقية، وهي تعدد وتناقض الروايات حول الحادثة الواحدة، إذ ليس من الشاذ ولا النادر أن تجد الرواية ونقيضها في نفس الكتاب، بل ونفس الصفحة وحول نفس الحادثة، ولعل هذا يرجع إلى "المنهج" الاسلامي في التدوين، والذي كان يعتمد على الروايات الشفوية وعلى جمع الاحاديث والروايات دونما تمحيص، بل اهتم بالسند أكثر من اهتمامه بالمتن، ورغم تطور منهج الكتابة التاريخية متأثرا بتطور علم الحديث وتدوينه، فإن الكتابات التاريخية ظلت روايات شفوية مكتوبة متأثرة بشخصية المؤرخ والرواة والوسط والفارق الزمني والصراعات الأيديولوجية.
هذه الأخيرة لعبت دورا أساسيا في تشكيل الوعي التاريخي الإسلامي، حيث أن التدوين التاريخي انطلق مع ما عرف بالقصاصين في العهد الاموي، وهم مجموعة من رجال الدين كانوا يقصون الأحاديث والقصص على الناس في المساجد عقب كل صلاة، غير أن أغلب قصصهم اقتصرت على الأمم السابقة للإسلام والملوك والبلدان الأخرى، وخاصة ما يعرف بالإسرائيليات أي القصص التوراتية التي ستدخل العوالم الإسلامية، وستصبح فيما بعد جزء مشكلا للمخيال الجمعي الإسلامي -وأحد عناصر الفقه والتاريخ الإسلاميين.
إضافة إلى القصاصين فقد كانت مجالس العلم والسمر تحوي كثيرا من الاخبار التاريخية، غير أنها لم تكن منفصلة عن الشعر والادب والحديث، وكلها كانت روايات شفوية، حيث لن يعرف التدوين التاريخي انطلاقته الرسمية الا بعد 120 سنة من وفاة النبي، ونلحظ أن سلسلة المؤرخين الأوائل شيعة وسنة كلهم ولدوا بعد القرن الأول (أبو مخنف، ابو الهيثم، الواقدي، ابن اسحاق...الخ) وأغلب كتاباتهم وصلت في وقت متأخر عن طريق تلاميذهم سماعا وليس كتابة، وبعض هذه الكتابات ضاع ولم يعثر عليه لحد الان.
يلحظ المتتبع هنا أيضا، أن الكتابات التاريخية ركزت على الفترة اللاحقة للنبي، إذ ان تناول سيرته بشكل مفصل لم يتم كما أسلفنا الا مع ابن اسحاق الذي ضاع كتابه، قبل ان يبعثه ابن هشام، ويمكن أن نفهم التركيز على الفترة اللاحقة للنبي محمد بسبب الصراعات التي تفجرت عقب وفاته والتي لازالت مستمرة إلى الآن.
بمعنى أخرى، نقول إن تدوين التاريخ الاسلامي خاصة فترة صدر الإسلام، كان خاضعا للصراعات المذهبية والسياسية المستعرة آنذاك بين مختلف الطوائف، وكان محاولة لإيجاد المشروعية لتعضيد حجة كل طرف، ولعل هذا ما يفسر اختلاف الروايات وتناقضها داخل الكتاب الواحد عند المؤرخ الواحد، فبالأحرى بين الطوائف والمذاهب، ما يجعلها في اغلب الاحوال كتابات تبريرية، تحاول تبرير الصراعات المتفجرة والتي ألقت بالمجتمعات الاسلامية في سديم من التفرقة.
ورغم ذلك وإن كانت الكتابة التاريخية الاسلامية كتابة بعدية، إلا أنها تكشف في جوانب كثيرة منها عن الواقع التاريخي المادي والصراعي المتأثر بالتاريخ وليس المتعالي عليه، كما تحاول تقديمه الكتابات الأصولية المعاصرة، والتي قامت بمحاولة "ترسيم الوعي التاريخي" عبر ترسيم كتابة تاريخية تبجيلية انتقائية، من خلال عملية انتقاء للروايات التي تستجيب لتصوراتها السياسية واقصاء الروايات الأخرى، والتي احيانا كثيرة ما تكون أكثر قوة ومنطقا واقناعا، بل وتمارس الكشف والاخفاء والتعتيم خدمة لأهداف سياسية محضة.
من هنا نخلص إلى أن التاريخ الاسلامي بالشكل المتصور لدى المجتمعات الإسلامية حاليا، لم يتحقق إلا على صعيد التصور والوجدان، وأنه انعكاس لحاجات نفسية وتعبير عن تصورات سياسية تحاول تعويض نقص حضاري نتج عن غياب مشروع حقيقي، أكثر ما يكون سردا لوقائع حقيقية، وأن تأمل المصادر التاريخية الاسلامية نفسها، يضعنا أمام هول المفارقة بين ما يتصوره المسلمون عن تاريخهم وبين ما يوجد بين دفتي أمهات كتبهم، وبين ما يمكن أن يكون قد حدث فعلا، وبين ما نستشفه من بين السطور وما احتفظت به الذاكرة الاسلامية الجريحة من تداعيات الفتنة الكبرى وانهيار النموذج الإسلامي إثر قتال الصحابة.
إنه أحد مظاهر شقاء الوعي التاريخي الاسلامي بل وزيفه، الذي رسخته الحركات الأصولية مساهمة بذلك في حالة النكوص الحضاري الذي تعانيه هذه المجتمعات، والدخول في حلقة مفرغة، يستلزم الخروج منها القدرة على هدم التصورات اليوثوبية التي شكلتها المجتمعات الإسلامية عن تاريخها، وفتح الباب أمام القراءات النقدية للتاريخ والتراث ككل، والنظر اليهما كتراكم تاريخي بشري، عبر الفصل بين المقدس والتاريخي، باختصار نقول إعادة تشكيل الوعي التاريخي للمجتمعات الإسلامية بعيدا عن القداسة وقريبا من الواقع والتاريخ.
©️ Copyright Pulse Media. Tous droits réservés.
Reproduction et diffusions interdites (photocopies, intranet, web, messageries, newsletters, outils de veille) sans autorisation écrite.