عطاء أمير المؤمنين لفك كربة الوزراء من المسلمين
العطاء هو مبلغ من المال تصرفه الدولة الإسلامية لقسم من المسلمين ليسدوا حاجياتهم وهو أيضا نظام إجتماعي ترفيهي ضامن لعموم العرب المسلمين ومواليهم من المقاتلة وذريتاهم موردا ماليا ثابتا(*).
بعدما بلغ الى علم الجمهور خبر استفادة السيد عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، من معاش استثنائي قدره 70 ألف درهم ازدهرت رياضة "التشيار" في المغرب ومعها أسئلة حول مفهوم الريع واحتد النقاش حول تناقض الخطاب والممارسة عند الساسة المغاربة وغيره من المواضيع التي أفرزتها واقعة "المكرمة الملكية" لرجل قدم نفسه باستمرار كمحارب للريع والامتيازات وكخادم، في نفس الوقت، للأعتاب الشريفة رغم حذر حراس الأعتاب من هذه الخدمة وانزعاجهم منها.
بعيدا عن جيمناستيك "عطيني نعطيك" وثقافة "ديرها فين تجيك" تظهر حادثة المعاش _التي أودت بحياة بنكيران الرمز_ فرادة الدولة المغربية التي استطاعت أن تخيط بدلة الحداثة على مقاس التقليد وتقدم للعالم موضة مؤسساتية لا مثيل لها في كل دور الحكم في العالم.
وحتى نبسط الأمور دعونا نخضع مراسلة السيد سعد الدين العثماني لمشرط الجراحة الدستورية إذ طلب رئيس الحكومة من محمد بن عبد القادر، الوزير المنتدب المكلف بإصلاح الوظيفة العمومية، بـ"اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ الأمر الملكي، والعمل على تسوية الوضعية المعاشية للمعنى بالأمر (في إشارة لبنكيران) بتنسيق مع وزير الاقتصاد والمالية الذي وجهت له نسخة من الرسالة".
تظهر هذه المراسلة، من جديد، ضيقا في أكمام وفتحات جلباب التقليد الذي يخنق جسد الدولة المغربية فالرسالة الموجهة بتاريخ 31 أكتوبر 2018 تقول أننا أمام "تعليمات ملكية بمنح معاش إستثنائي" وأن مرجع هذه التعليمات رسالة مستشار الملك رقم 18005692 بتاريخ 30 أكتوبر 2018 في غياب أي إشارة لظهير ملكي ينظم هذا المعاش. للظهائر الملكية سند دستوري على كل حال، إلا أنها تبقى تعبيرا صريحا عن إرادة سلطانية ممتدة من تاريخ الحكم السعدي وأداة دستورية فوق الدستور وعلامة على النبوغ المغربي القادر على استدامة آليات حكم ماضوية في القرن الواحد والعشرين.
غير أن مراسلة العثماني لبنعبد القادر وإن كانت في ظاهرها إدراية فهي مبنية على تعليمات لا تكتسي أية صبغة دستورية أو قانونية ولا يجب أن يكون لها أثر إداري أو قانوني أو أن تزحزح سنتيما واحدا من الميزانية العمومية إلا في حالة ملئ البياضات القانونية وصياغة القاعدة العامة والمجردة الكفيلة بطي كتب الآداب السلطانية التي تحكم الأمم بناء على منطق "أعطه مئة دينار".
بعيدا عن سند المراسلة _وأمام الشكوك التي تحوم حول نسخة الظهير المسربة في الجرائد والمفتقدة لإحترام المعايير الشكلية للظهائر_ فمتن المراسلة ينهل من قاموس تقليداني هو الآخر إذ جاء في مراسلة رئيس الحكومة الاسلامي لوزيره اليساري عبارة "تعليمات ملكية بالإنعام على السيد عبد الإله ابن كيران بمعاش استثنائي" وكلمة "إنعام" إسم فعله "أنعم" بمعنى "أعطى" والعطاء هنا مَنّ لا يكون مرتبطا بالاستحقاق ولا يدخل في قاموس الدولة الحديثة التي تعتبر المعاش استحقاقا مقابل سنوات طويلة من العمل الشاق وادخار وفق أنظمة تأمين مركبة تضمن للفئات النشطة العيش بكرامة في أرذل العمر بعيدا عن الفاقة والفقر والصدقة والمكرمات.
وحتى نخرج من منطق الغنيمة ونضع حدا لـ "التشيار" وقبل أن تكسر الجباه فإن معاش بنكيران يدعونا الى تقويم الأعطاب الدستورية وبناء الدولة الحديثة على ركائز الحرية والعدالة الإجتماعية بعيدا عن منطق التفاضل في الأعطيات الذي سنه عمر ابن الخطاب يوم كان خليفة للمسلمين ولما سئل عن هذا التمييز لصالح المهاجرين والأنصار أجاب : لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه ! عمر بن الخطاب صاحب الحديث الشهير "قرقر أو لا تقرقر" في مونولوغ مع بطنه الجائع والذي سبق للنائب البرلماني عبد الإله بنكيران أن ذكرنا بزهده قبل أن يتوفاه الله في حادثة سير بعد أن دهسه معاش استثنائي من فئة Poids Lourd.
(*) السامر : فيصل، نهضة التجارة العربية في العصور الوسطى الإسلامية، مجلة المؤرخ العربي، العدد 17 (بغداد 1991) الصفحة 69.
©️ Copyright Pulse Media. Tous droits réservés.
Reproduction et diffusions interdites (photocopies, intranet, web, messageries, newsletters, outils de veille) sans autorisation écrite.