« عهد الأحرار ».. مشاهد من ليلة طويلة انطفأ فيها حزب « المصباح »

حول النافورة، وسط شارع محمد الخامس، يَرمي الأطفال حبات قمح للحمام وعلى الرصيف منشور انتخابي لعلاء البحراوي مرشح حزب التجمع الوطني للأحرار بالدائرة التشريعية الرباط شالة. الساعة تشير الى الثامنة مساء وقد تم إغلاق مراكز التصويت منذ ساعة. وبالموازاة مع فرز الأصوات يحاول الصافي الناصيري استقراء خارطة الانتخابات مع محللين صوتهم قادم عبر مذياع السيارة من استوديو الإذاعة الوطنية.
الساحة المقابلة للبرلمان ممتلئة، عن آخرها، بلوجستيك البث المباشر والصحافيين القادمين من مختلف أنحاء العالم. Ana Jimenez مراسلة قناة TVE ومعها المصور Ruben Maldonado ينقلان الأجواء في بث مباشر للجمهور الاسباني، عبد الصمد ناصر وفريق الجزيرة يرتبان وضعية الكراسي على منصة النقاش الموضوعة قبالة فندق "باليما" والصحافي سعيد كان صحبة المخرج بلال الطريبق يتبادلان التحايا مع زملاء عابرين. شارع العاصمة مُنير تُزينه أعمدة "رباط الأنوار" وقد زادته أضواء الكاميرات بهاء وخلف البرلمان كان شارع عبد الواحد المراكشي مظلما وفي الزاوية المقر المركزي لحزب العدالة والتنمية يعيش جوا غرائبيا شبيها بأحداث رواية "من لا عزاء لهم" لكاتبها صاحب جائزة نوبل "كازوو إيشيغورو".
20H30. دار عزاء
هل من معطيات أولية؟ يسأل أحد الصحافيين الشاب نزار خيرون، وهو معاون رئيس الحكومة المكلف بالإعلام من ضمن ملفات أخرى. لا ينتبه خيرون للسائل، وربما لم يسمعه، ويكمل هرولته إلى جوف مقر حزب العدالة والتنمية حيث الصحافيون والمصورون ينتظرون خروج قائد من حزب "المصباح" ليبدد ظلام الإشاعة. تتكرر الأسئلة للمعاون الذي يستعين بقصر قامته وانحناءته الخفيفة ليتسلل بين الجموع ويغلق دونه بابا محروسا يبدو أنه يخفي متطوعين مكلفين بفرز الأصوات وقاعة شرفية ومكاتب إدارة الحزب.
دقائق بعدها بدأت الإدارة المركزية للحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية في إرسال بيان تقول فيه "أنه تأكد لديها عزم عدد من رؤساء مكاتب التصويت، عدم تسليم نسخ من محاضر التصويت لممثلي المرشحين بعدد من الأقاليم" خصت بالذكر منها جميع مكاتب التصويت بميدلت، وكذا عدة مكاتب بكل من بني ملال وأزيلال وسيدي سليمان والقنيطرة، وذلك بدعوى عدم التوفر على الوسائل التقنية واللوجستية لذلك. أهل "المصباح" اعتبروا في بلاغهم أن في الأمر "مخالفة صريحة للمقتضيات القانونية المنظمة للانتخابات ببلادنا، وخاصة المادتين 25 و57، ومسا خطيرا بنزاهة الانتخابات". علق أحد الحاضرين على البلاغ بالقول "يبدو أن العدالة والتنمية تحضرنا لتشييع جثمان الحزب" ثم هم بحكي نكتة قبل أن يقاطعه متعاطف ويطالبه بحجته التي دفعته الى هذا "التعليق القاسي".
قبل ذلك بساعات وتحديدا حوالي الساعة الرابعة مساء، من يوم الاقتراع، كان الصحافيون قد تلقوا، عبر البريد الالكتروني، بلاغا تقول فيه قيادة العدالة والتنمية أنها تتابع بقلق شديد ظروف سير عمليات الاقتراع على المستوى الوطني، وذلك على إثر تسجيل عدد من الخروقات.
كان البلاغ الذي يحمل رقم ستة (06) قد سجل ما وصفته إدارة حملة المصباح بـ"استمرار التوزيع الفاحش للأموال في محيط عدد من مراكز التصويت، دون تدخل السلطات المعنية رغم إشعارها في كثير من الحالات" و "انتشار ظاهرة نقل الناخبين إلى مكاتب التصويت (..) وتنامي أعمال البلطجة، والاعتداء على مناضلي الحزب والسماح بالتصويت دون التأكد من الهوية".
بمناسبة الانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر 2016 كان مقر حزب العدالة والتنمية يعج بالحياة وكانت الأخبار تتواتر والأرقام تتوالى دون انقطاع. للحزب من الأعضاء والمتعاطفين ما يجعله التنظيم السياسي الوحيد القادر، في المغرب، على تغطية مجموع مراكز الاقتراع وهو ما يسمح له بتجميع المعطيات على مستوى الدوائر أولا بأول وتحويلها الى اللجنة المركزية في حي الليمون التي تشكل صورة وافية عن حصيلة التصويت.، من فرط حماسه، في التشريعيات الماضية، غادر مصطفى الرميد القيادي في الحزب ووزير العدل والحريات آنذاك، مقعده في اللجنة الوطنية للإشراف على الانتخابات، وجاء ليلة تشريعيات 7 أكتوبر إلى مقر حزبه ليعلن إنتصار "المصباح" على خصومه إذ حقق الحزب نصرا كبيرا بعدما حصل على 125 مقعدا، متبوعا بحزب "الأصالة والمعاصرة" بـ 120 مقعدا. وباستثناء حزبي الصدارة اللدودين فقد تقهقرت مختلف الأحزاب في التشريعيات وفقدت كثيرًا من نوابها، مما دفع ابن كيران إلى القول إن "نتائج الانتخابات أحدثت ما يشبه زلزالا سياسيا كانت له تداعيات جمة".
المفارقة كبيرة وغريبة بين ذكرى فرح سنة 2016 الذي تحتفظ به ذاكرة حي الليمون والنشوة والفخر والزغاريد والهتاف "هاهي هاهي العدالة والتنمية" وأجواء ليلة الثامن من شتنبر 2021 حيث حل محل الحبور صمت القبور في مشهد لا ينقصه سوى لحن جنائزي يعوض حشرجة صوت عبد الإله بنكيران المقال في يوم غاب فيه صوت المغاربة.
22H30. جيران "شاتوبريان"
في الطريق الى حي "أكدال" يسأل رجال الأمن، الواقفين في السدود الأمنية، عن رخص تنقل المستعملين لشوارع المدينة فقد جاوزت الساعة العاشرة مساء ويوم الاقتراع لا يعفي المواطنين من الالتزام بتعليمات الحظر الليلي الذي يقره قانون حالة الطوارئ الصحية.
عند باب المقر المركزي لحزب الأصالة والمعاصرة يقف ناشط حركة 20 فبراير السابق أسامة لخليفي منتظرا إشارة من عناصر الأمن الخاص للدخول والذين ينتظرون بدورهم ضوء أخضرا من "عماد". لا حركة ولا سكون عند باب المقر إلا بإذن عماد. جنوب مقر "التراكتور" البناية التاريخية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وأمام المقر الحانة التي تحمل اسم السياسي والكاتب الفرنسي المرموق "شاتوبريان" الذي عاصر الثورة الفرنسية وكان شاهدا عليها وهي تأكل أبناءها.
في حديقة المقر بنيت منصة صغيرة تحمل رموز الحزب وبين الحديقة والفيلا الصغيرة عشرات الصحافيين يتناقلون بعض الأخبار التي بدأت تظهر تعثر حزب العدالة والتنمية مقابل تقدم كبير لحزب الأصالة والمعاصرة. الأخبار السارة بدت ظاهرة على محيا عبد اللطيف وهبي، أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة، الذي بدا بدوره باشا ومتهللا. "آ ش كا تديرو هنا؟" هكذا مازح "سائق التراكتور" الصحافيين بلكنته الرودانية الأمازيغية وهو يتنقل من مكتب الى مكتب داخل الفيلا الصغيرة والتي تبدو أقل حجما من المقر السابق في "طريق زعير" غير أن وهبي بدا راغبا في التخلص من إرث سلفه إلياس العماري بما في ذلك الجدران. الأمين العام لحزب الاصالة والمعاصرة يوزع النكت والابتسامات لكنه يرفض الرد على طلب نساء ورجال الإعلام وهم يطلبون الارتسامات.
الساعة تشير الى الحادية عشر وخمس وأربعون دقيقة، عند باب حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بحي الرياض، تتقاسم خولة لشكر، إبنة الكاتب الأول، نقاشا مع بعض أعضاء الحزب، وفي مدخل البناية الزجاجية يجلس عبد الله الصيباري، الكاتب العام لشبيبة "الوردة"، مقتعدا الأرض بقميص صيفي متعرق وقد بدت عليه علامات العياء بعد يوم شاق، بينما يدلي المهدي المروازي، القائد الاتحادي الشاب، بتصريحات للقناة الثانية لكن التصريحات تبقى عامة وحذرة ولا تحمل معطيات دقيقة من قبيل تلك الرسالة المجهولة المصدر التي وصلت عبر تطبيق الواتساب لعشرات الصحفيين، في وقت واحد، وفحواها أن حزب التجمع الوطني للأحرار يحرز نتائج مهمة ويحتل الصدارة يليه حزب الأصالة والمعاصرة بعد فرز 70 في المائة من الأصوات.
00H01. في انتظار لفتيت
انتصف الليل، الكل ينتظر ندوة عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية المكلف بإدارة العملية الانتخابية، إلا أن لفتيت لا يظهر على التلفاز في الموعد الذي أعلن أولا. الأخبار الآتية من مقر حزب التجمع الوطني للأحرار تقول أن عزيز أخنوش قد نظم ندوة صحافية سريعة أثنى فيها على أداء "الحمامة" خلال الحملة الانتخابية وضرب موعدا للجمهور صباح الخميس بينما تكلف فريقه بدعوة الحاضرين الى المغادرة، بأدب، وقد "ربحوا" جميعا فحصا سريعا للكوفيد-19 لم ترق ظروف إجرائه بعض المدعويين لتغطية ليلة إعلان النتائج في ضيافة صاحب "أكوا كروب".
في زنقة الزيتون، وسط حي الرياض، دبيب الحركة لا ينقطع أمام مقر حزب التقدم والاشتراكية الذي رفع شعار "ديما معاك بالمعقول" في حملته الانتخابية. عبد الله ولد محمدي، وهو صحافي ومنتج موريتاني معروف، لا يخفي إعجابه بهندسة البناية "التقدمية" التي وصفها بـ "البسيطة والجميلة".
في الطابق الرابع حيث مكتب الأمين العام، يجلس عدد من قادة حزب "الكتاب" في القاعة الشرفية حيث تسمع قهقهة الصديقي، وزير التشغيل السابق، بينما لا يتوقف هاتف نبيل بنعبد الله عن الرنين. زعيم الحزب يبدو مطمئنا لنتائج الحزب على المستوى الوطني لكنه متوجس من نتائجه هو بوصفه مرشحا في الدائرة الانتخابية المسماة "الرباط المحيط". اختار نبيل بنعبد الله خلافا لجل قادة الأحزاب الدخول الى غمار الانتخابات التشريعية، مغامرة يعلق عليها عضو من الحزب بالقول "نحن أمام قائد شجاع قرر التقدم ببرنامج واقعي للمواطنين خلافا لقادة أحزاب قرروا الجلوس في مكاتبهم في انتظار ما قد يأتي به الأعيان من خراج".
قُبيل الساعة الثالثة ظهر عبد الوافي لفتيت وعلى يساره نور الدين بوطيب، الوزير المنتدب في الداخلية، وخلفهما صورة الملك محمد السادس وخارطة المملكة بكل جهاتها. بعد تقديم الكثير من الأرقام والاحصائيات وعبارات التقييم رمى الوزير برقم قال فيه إن حزب العدالة والتنمية حصل على اثني عشر مقعد برسم الانتخابات التشريعية متخلفا عن غريمه، التجمع الوطني للأحرار، الذي حاز 97 مقعدا، بحسب النتائج المؤقتة الخاصة بـ 96 في المائة من مجموع المقاعد. كان الرقم المعلن أشبه بسطل ماء بارد أطفأ شعلة حزب "المصباح" في نهاية ليل بهيم تضارب فيه التقييم والانتظارات.
©️ Copyright Pulse Media. Tous droits réservés.
Reproduction et diffusions interdites (photocopies, intranet, web, messageries, newsletters, outils de veille) sans autorisation écrite.