كعبة المسلمين: بين القداسة والتاريخ

تحظى الكعبة بمكانة خاصة داخل وجدان المجتمعات الإسلامية، فهي مهد الدعوة المحمدية وقبلة المصلين خمس مرات في اليوم، وإليها يحج الملايين كل سنة ليطوفوا بأرجائها، وقد بلغ من إجلال الله لها بحسب التصور الإسلامي أن شيد البيت المعمور في السماء السابعة كنسخة عن الكعبة الأرضية لتطوف حوله الملائكة، كما يطوف الناس بكعبة مكة، إذ أخرج الطبري في تفسيره للآية الرابعة من سورة الطور والتي ورد فيها "والبيت المعمور" حديثا للنبي محمد قال فيه : "رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا؟ قال : البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم" كما أن الكعبة بحسب ذات التصور مركز الكرة الأرضية ونقطة توازنه، ما جعل العديد من "العلماء والباحثين" ينبرون لمحاولة إثبات هذا الأمر عبر ما يعرف بالاعجاز العلمي، الذي شيدوا عليه تمثلاتهم الدينية للكعبة.
الكعبة والنصوص : غياب لافت
بتأملنا للنص القرآني لا نعثر على تلك القداسة التي تصورها الأدبيات الإسلامية للكعبة، إذ لم ترد بهذا الاسم إلا في آيتين هما الآية 95 من سورة المائدة، والتي ورد فيها "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة...الخ" كما وردت في الآية 97 من نفس السورة إذ جاء فيها : "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وان الله بكل شيء عليم".
ما يثير الاستفهام هنا أن الحديث ورد عن الكعبة، فهل هذا يعني أن الأمر يتعلق بمكة، إذ ان هذه الأخيرة لم ترد في النص القرآني، باستثناء آية واحدة ورد فيها لفظ بكة (بالباء وليس الميم) في الآية 96 من سورة آل عمران "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين"، فيم وردت لفظة البيت الحرام والعتيق في مواضع أخرى، بيد أنها لم تنص على أن الأمر يتعلق بمكة كما لم تعلن تلك القداسة التي ترسمها الأدبيات الإسلامية المتأخرة -خصوصا بعد القرن الرابع الهجري- وبالتالي يجوز لنا التساؤل هل قداسة الكعبة جاءت انطلاقا من موقعها الديني أم تبعا لتطورات تاريخية؟.
كعبة أم كعبات
أثناء محاولتنا الإجابة عن هذا السؤال وباستقرائنا للمصادر الإسلامية نقف على حقيقة جد هامة، وهي أن مكة لم تكن الوحيدة التي تحتضن الكعبة ولم تكن مقصد العرب الوحيدة كما دأبت على ترديده كثير من الكتابات، إذ عرفت شبه الجزيرة العربية كعبات أخرى يحج إليها الناس ويعظمونها تعظيمهم لكعبة مكة، وقد بلغ عددها بحسب بعض المصادر الإسلامية أكثر من 22 كعبة، أما ابن هشام -الذي هذب سيرة ابن اسحاق أول كتاب أرخ لحياة النبي محمد- فقد ذكر في السيرة النبوية 8 كعبات إضافة إلى كعبة مكة يعظمونها تعظيمهم لمكة، وهي :
- كعبة العزى : وكانت لقريش وبني كنانة أما سدنتها وحجابها فكانوا من بني شيبان حلفاء بني هاشم.
- كعبة اللات : واللات هي مؤنث الله، وكانت لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بنو معتب.
- كعبة مناة : وكانت للأوس والخزرج ومن معهم.
- كعبة ذو الخلصة : وكانت لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة.
- كعبة فلس : وكانت لطيء ومن يليها.
- كعبة رئام : وكانت لحمير وأهل اليمن.
- كعبة رضاء : كانت لبني ربيعة، بني كعب، بن سعد، بن زيد مناة، بني تميم.
- كعبة ذو الكعبات : وكانت لبكر وتغلب ابني وائل.
كل هذه الكعبات كانت تشهد طقوسا مماثلة لطقوس الحج الذي تشهده كعبة مكة بما فيها من نحر وهدي وشعائر تعظيم لها، ولعل هذا ما جعل التنافس يحضر بينها، إذ كانت كل كعبة تسعى إلى فرض هيمنتها على باقي الكعبات وبالتالي فرض سلطة قبيلتها على باقي القبائل.
وباستقراء المصادر التاريخية الإسلامية نجد أن كعبة ثقيف كانت أبرز كعبات شبه الجزيرة العربية إضافة لكعبة قريش، ما جعلها تعرف بكعبة اللات، واللات هي مؤنث الله، كما عرفت ببيت الربة ويحدثنا ابن هشام في السيرة النبوية على أن أبرهة الحبشي لما قدم ثقيفا لهدم كعبتها خرج له سادتها "فقالوا له : أيها الملك، إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم".
وبغض النظر عن مدى وقوع حادثة محاولة أبرهة الحبشي تدمير الكعبة من عدمها، فإن هذا النص يجعلنا نتوقف على طبيعة العلاقة المتوترة بين الكعبتين، ما يمكن أن نعممه على العلاقة بباقي الكعبات، خاصة أن قبيلة خثعم سبق لها بدورها أن دلت أبرهة على كعبة ثقيف.
ثمة حدث آخر سيظهر طبيعة العلاقة المتوترة بين الكعبتين، عندما خرج النبي محمد إلى ثقيف لدعوتهم إلى اعتناق دينه، فكان رد فعلهم عنيفا حيث رفض سادتهم الاستماع له وقام احدهم بإزاحة أستار كعبة اللات وتحريض "سفهاء" ثقيف عليه ليتعرض النبي للأذى الشديد، وتم رجمه بالحجارة حتى دميت قدماه وشج رأس خادمه زيد، وهذا الموقف لا يمكن فهمه إلا باستحضار طبيعة الصراعات المتوترة بين الكعبتين وصراع النفوذ بين القبيلتين الحاضنتين لهما، ولعل هذا جعل النبي يوجه حملة عسكرية لتهديم الكعبة بقيادة معاوية بن أبي سفيان.
بعد تهديم باقي كعبات شبه الجزيرة العربية والإعلاء من شان كعبة قريش باعتبارها بيت الله الحرام بعد دخول النبي محمد لمكة، فإنها لم تظل بمأمن عن عمليات التخريب والسرقة، وأول ما يجب ملاحظته في هذا السياق هو أن النبي محمد وبمجرد فتح مكة عاد أدراجه إلى يثرب التي كانت عاصمته السياسية، وبالتالي، لماذا لم يبق النبي محمد في مكة باعتبار مكانتها الدينية وباعتبارها مهده الأصلي وجذره الأول وباعتبار أنه غادرها مضطرا؟
وحتى إذا ما اعتبرنا أن النبي قد عاد إلى المدينة مراعاة للأنصار وعرفانا بجميلهم وحفظا للتوازنات التي أقام عليها تنظيمه باعتبار أن الأنصار كانوا من عضده وحمل لواء دعوته، فان التساؤل هنا حول سبب بقاء خلفائه الأربعة بالمدينة، رغم انحدارهم من قريش الحاضنة للكعبة المقدسة؟ وبرغم العلاقة المتشنجة التي جمعتهم بالأنصار حول الأحقية بالخلافة انطلاقا من أحداث سقيفة بني ساعدة وما تلاها من خلافات؟ فلماذا لم يتخذ خلفاء محمد الأربعة من مكة عاصمة لهم ليجمعوا السلطتين الروحية والسياسية للامبراطوية التي كانت آخذة في الاتساع؟ ألم يكن الاستقرار في مكة "المقدسة" و"بيت الله الحرام" سيشكل سندا للسلطة السياسية القائمة؟
المسلمون يخربون الكعبة المقدسة "مرارا"
مسألة قداسة الكعبة القرشية تبدو على محك التساؤل أكثر باستعراضنا لما تعرضت له مرارا، ففي سنة 64 هجرية أمر اليزيد بن معاوية بن أبي سفيان -حفيد أبي سفيان بن حرب الذي شكل بيته ملاذا آمنا لسكان مكة بعدما دخلها محمد منتصرا- الحصين بن نمير قائده لإخماد فتنة ابن الزبير بمكة بضرب الكعبة بالمنجنيق حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمنجنيق، وحرقوه بالنار حتى تهدمت بعض الأجزاء من الكعبة ما دعا ابن الزبير إلى هدمها وإعادة بنائها.
وبعدها بحوالي عقد من الزمن أي سنة 73 هجرية سيقوم الحجاج بن يوسف الثقفي -سليل أسرة بن متعب التي كانت لها مهمة سدانة كعبة اللات- ووالي عبد الملك بن مروان -سليل أسرة معاوية بن أبي سفيان الذي هدم كعبة ثقيف- بضرب مكة بالمنجنيق من جديد خلال شهر ذي الحجة –الذي يعتبر من الأشهر التي يحرم فيها القتال- حيث هدمت أسوارها وأعاد الحجاج بناءها من جديد بعدما قتل عبد الله ابن الزبير -حفيد عمة الرسول محمد من جهة الأب وحفيد أبو بكر الصديق من جهة الأم- وفصل رأسه عن جسده وهو متعلق بأستار الكعبة.
كما قام عبد الملك بن مروان قبلها بسنوات بمنع الناس من الحج إلى مكة، وشيد المسجد الأقصى بديلا عنه ليصير حج الناس إليه، وظل الأمر سنوات على تلك الحال حتى تمكن من القضاء على تمرد عبد الله ابن الزبير ليهدم الكعبة بعد ذلك ويعيد بناءها.
تعرض الكعبة للاعتداءات سيتواصل حيث ستشهد سنة 317 هجرية غارة من طرف فرقة القرامطة على مكة تمكنوا خلالها من اقتلاع الحجر الأسود –الذي بحسب التصور الإسلامي نزل من الجنة وكان أبيضا قبل أن يسود بسبب خطايا الإنسان- ونقله إلى البحرين ليحتفظوا به طيلة 22 سنة قبل أن يرجعوه إلى مكة سنة 339 هجرية.
وعلى صعيد آخر، عرفت مكة خلال العهدين العباسي والأموي احتضان العديد من دور تعليم الغناء والرقص للقيان والجواري، واشتهرت فيها العديد من المغنيات، وهو ما تنبئنا عنه كتب الأدب والأغاني التي يحفل بها التراث الإسلامي، ولم يكن تشدد مالك بن انس إلا رد فعل على ما تفشى في مكة -التي تحتضن الكعبة المقدسة- من "منكرات ومفاسد"، كما شهدت شعراء عديدين يشببون بالنساء اللواتي يقصدن الحج ويتغزلون بهن.
إن ما ذكرناه آنفا يساءل قدسية الكعبة الإسلامية ويجعلها موضع تساؤل، ويدفعنا إلى التساؤل حول مصدر قداسة الكعبة وصيرورتها، وإلى أي حد تظل الصورة المرسومة عنها في الكتابات الحالية صحيحة؟ ولكن السؤال الأكبر لماذا تفادت النصوص الدينية الإشارة إلى الكعبة بشكل صريح والتنصيص على قداستها؟.