مخطط المغرب الأخضر، طموحات فلاحية تُكبلها نُدرة الموارد
رسم مخطط المغرب الأخضر للفلاحة دور قاطرة للتطور الاقتصادي للبلاد عبر تجميع أولي للرأسمال. إرادة كهذه لا يمكن إعفاءها من مساءلة عميقة حول ظروف هذا المنحى التصاعدي للمردودية الفلاحية، تمهيدا لتجميع أولي لرأس المال. وبالنظر عن كثب في الأعمال المرجعية في هذا المجال، من البديهي أن تكون العوامل الإنتاجية الضرورية محط انتباه واهتمام خاص ونقصد بهذا رأس المال والموارد المائية والعقار وفرص الشغل. وبتعبير آخر، إن الأمل في تحسين وضعية الفلاحين، اللبنة الأساس لتطور وازدهار هذا القطاع. فهل يمكن تحقيق هذا الازدهار في ظل الظروف توفر وجاهزية هذه الموارد؟. سؤال محوري سنروم الإجابة عليه من خلال هذا المقال انطلاقا من تحليل للمعطيات الميدانية.
رسملة الفلاحة : فوارق جليًة رغم التدخلات الأخيرة
في إطار استراتيجية مخطط المغرب الأخضر هناك إرادة جلية لضخ رأسمال أكبر في الفلاحة بيد أن الرأسمال وحده لا يكفي بل يجب التأكد من استعماله الناجع و تقسيمه بشكل متوازن وعادل. غير أن دراسات لتتبع مسار هذه الأموال المستثمرة في الفلاحة، تبين بشكل واضح أن الوضعية لم تتغير، تقريبا، بالنسبة للأغلبية الساحقة من الوحدات الفلاحية التي تقل مساحتها عن خمس هكتارات. حيث هشاشة البنية وارتباطها بتقلبات السوق والمناخ ما تزال ملموسة بشكل جلي دون نسيان عدم تأقلم أنظمة الدعم التقنية مع خصوصية الوحدات الفلاحية. أضف إلى هذا الضخ الكبير للرساميل في الضيعات الكبرى ذات المساحة الكبيرة في إطار نظام للدعم والإعانات التي لا يتم توظيفها دائما بشكل ناجع، إذ نجد مشاريع لتربية الماشية أو للغراسة تُوقف أنشطتها بشكل مباغت.
مياه الري : مصادر طبيعية تعاني إفراطا في الاستعمال وأصل النزاعات بين المستعملين
إن وضعية المصادر المائية الطبيعية في المغرب معروفة وتتميز بنقص كبير في المياه. وجاء مخطط المغرب الأخضر ليزيد الطين بلة رغم أن تجديد تقنيات الري التقليدية واستبدالها بوسائل أقل إهدارا للماء (كتقنيات اقتصاد الماء)، كان يفترض فيها الحد من هدر الموارد المائية. لكن هذا الافتراض لم يتجسد على أرض الواقع، إن تغيير تقنيات الري وتعويض الفلاحة الشتوية التي يتم سد حاجيات الري منها من التساقطات المطرية (مثل الحبوب وتربية المواشي الرعوية والقطاني والعلف) الي فلاحة صيفية تعتمد بشكل كبير على الري ( مثل زراعة الأشجار المثمرة و الذرة). وأكبر دليل على هذا المنطق هو تزايد المساحات المزروعة في المناطق القاحلة على غرار البطيخ الأحمر وزراعة النخيل في المئات من الهكتارات وفي الواحات. وبالتالي يتزايد تناقص الموارد المائية الى حد تهديد التزويد بالماء الصالح للشرب في بعض المدن خصوصا جنوب وغرب البلاد نتيجة شح المياه الجوفية بالإضافة الى الاستهلاك غير المتساو للمياه الذي يؤدي الى تهميش اجتماعي لمعظم الفلاحين غير المتوفرين على موارد مادية تمكنهم من حفر الآبار وامتلاك الأدوات التقنية أمام أقلية تنهل من الموارد المائية الجوفية دون حسيب أو رقيب. ويشكل الانخفاض الكبير للماء في معظم المنابع المائية للبلاد دليلا راسخا على هذا الاستغلال غير الناجع للموارد المائية.
العقار الفلاحي ، عامل أساسي في الانتاج الزراعي يعرف تزايدا في الطلب و ارتفاعا في الكلفة
مما لا شك فيه أن العقار عامل أساسي في الإنتاج الفلاحي، إذ أن تحليلا سريعا لحالة هذا المورد، تبين عوائق جمة على الفلاحين مواجهتها. بالإضافة الى التفكيك السريع للمزارع بسبب الإرث واختلاف الصفات القانونية للعقار التي تعيق تقييمه. وهكذا فإن صفة العقار الجماعي ك "الجيش " أو "الحبوس" التي يستغلها ذوي الحقوق بدون أي ضمان للملكية، لا تشجع على تجهيز العقار بتسميد التربة أو وضع قنوات الري ...إن نتائج هذه المعيقات ومحدوديتها جلية في الوقت الحالي إذ نادرا ما نجد عقارا فلاحيا في وضعية قانونية سليمة ومضمونة وهو جد مكلف الى حد أن الأثمنة تفوق المديونية بل ومكلف أكثر منه في الدول التي تحتل المراتب الأولى في الفلاحة. فأصبحت الأراضي الفلاحية استثمارا أكثر منه كعامل للإنتاج بل بات امتلاكها يعني الحصول على مصدر مدر لدخل قار وليس آلية إنتاجية. ومن هذا المنطلق يتردد المستثمرون المستقبليون في شراء العقار بسبب الضغوط حوله ويبحثون بالتالي عن أراضي لكرائها على المدى الطويل وبات التعامل في الأراضي أمرا عشوائيا...
الإشتغال في القطاع الفلاحي : عمل مضن وغير مأجور بشكل كافي بسبب الكفاءات المحدودة
تتميز اليد العاملة في هذا القطاع بكونها الأكثر وفرة، بما أن الفلاحة تشغل 40 % من اليد العاملة النشيطة على المستوى الوطني إلا أن وفرة اليد العاملة تنتابها عدة شوائب. إن الأبحاث في الميدان تؤكد صعوبة ظروف العمل في هذا الميدان ووثيرته الفصلية (غير المنتظمة) والتي توفر أجرا كافيا وقارا وخاصة في حالة الاضطرابات الجوية أو تقلبات السوق. بل أسوأ من هذا، إن المداخيل المحصلة عن العمل الفلاحي هي في الغالب ضئيلة و أقل من الدخل الدنيوي المحدد( سماك 64 درهم في اليوم).
بالإضافة إلى هذا فإن عدة مهام فلاحية تتطلب جهدا شاقا و يوميا بالخصوص تلك المتعلقة بتربية المواشي والتي تتطلب مدة زمنية طويلة. ومن تمً ينفر الشباب من مزاولة هذه المهنة، مما يؤدي إلى صعوبات متزايدة لأجل مواصلة الاستثمار في هذا الميدان. وبرغم من المجهودات المبذولة من قبل الدولة للنهوض بالاستثمارات في التقنيات الفلاحية و أدوات الري. إلا أن الجهود المبذولة لم ترق للمستوى المطلوب لأجل تكوين العامل البشري الذي يزاول نشاطا فلاحيا. فمثلا شبكة الري المعتمدة على اقتصاد الماء(قطرة-قطرة) ثمنها يصل إلى 40000 درهم و 80 % منها تموله الدولة. ويتم تسليم هذه الشبكة ووضعها كما يتوصل الفلاح بإعانات من الدولة و لكن اليد العاملة لا تستفيد بأي تكوين حول كيفية استعمال وصيانة هذه الأدوات يوميا. ويحدث أن يتم سحب شبكة الري، بعد مرور بضعة أشهر ويعود بعدها الفلاح إلى طرق الري( الشاقولية) المعتمدة على نظام ضخ المياه.
ونفس هذه الحقائق و الملاحظات يمكن الوقوف عليها فيما يخص تربية العجول والأبقار حيث التحول إلى حلب الأبقار بطرق ميكانيكية لا يستمر لوقت طويل بسبب عدم كفاءة اليد العاملة و بالتالي ليس من الغريب أن نجد في الإسطبلات آلات لحلب الأبقار تهترئ في الإسطبلات... وفي النهاية، ضعف استعمال هذه الوسائل المتوفرة بدعم من الدولة لأجل تشجيع الاستثمارات فيما يخص الأدوات الفلاحية، يقلص نجاعتها ويحد من مردوديتها. ونشير هنا أنه بفضل الأنشطة غير الموازية يسهر مجموعة من الحرفيين في الميكانيك، لم يسبق لهم الاستفادة من أي تكوين بل تكونوا بالممارسة، على صيانة وسير الآلات والوسائل ( محركات الضخ...) و الذين يستبدلون بدورهم بشكل سريع.
إن هذا الملخص القصير لمدى جاهزية وتوفر المصادر الأساسية للتطور الفلاحي تبين الهشاشة المفرطة لهذا المجال. و يجب الإشارة أن الاختيارات الفلاحية للبلاد منذ الاستقلال، عكست في معظم الأحيان منطقا ليبراليا. هذا الأخير وسًع الهوة بين فلاحة يفترض أن تكون فعالة (الدعامة الأولى من المخطط) والذي تم تمويله بشكل مفرط وموجه في معظمه إلى تصدير المواد مثل (الحبوب والحوامض وزيت الزيتون...). وفلاحة أخرى معيشية (الدعامة الثانية من المخطط) والموجهة في الغالب نحو الاستعمال الذاتي وتزويد الأسواق المحلية. ويتميز النوع الأول بتعلقه بالري وبالأسمدة بينما يعتمد النوع الثاني على التساقطات ولا تستعمل فيه الأسمدة.
إنً المنطق الليبيرالي الذي يقود هذه الاختيارات بلغ حده الاقتصادي والبيئي في الوقت الراهن. وهذا ما يضع التوجهات القديمة على المحك ويجعل إعادة النظر فيها ومواجهة الحقيقة أمرا مستعجلا : إذ لم تعد الفلاحة قادرة على تحقيق ازدهار شامل ومندمج للبلاد بل إنها بالكاد تنجح في ضمان لقمة عيش عائلات الفلاحين الذين يستغلون مساحات محدودة والتي تجد نفسها مجبرة على البحث عن وظيفة إضافية لزيادة دخلها عبر الاشتغال كعمال، في معظم الأحيان، في الضيعات الكبرى أو من خلال هجرتها الى المدن جزءا من السنة.
إنً الرغبة في الرفع من الإنتاج الفلاحي لا يمكنها تجاهل حالة الموارد اللازمة لذلك. بل إنه من البديهي أن استراتيجية فلاحية واقعية وقابلة للتطبيق لا تشرع كقانون بل إنها تبنى أخذا بعين الاعتبار الإيجابيات والعوائق الطبيعية والبشرية. ومن أهم هذه المعيقات تطور الفلاحة في بلد شبه جاف وجاف الذي يظل الماء العائق الأساسي فيه. إن العوز الى الماء تظهر آثاره على الفلاحة وندرة هذا المورد المتزايدة بسبب التغيرات المناخية مصحوبة بتزايد الطلب عليه ستؤدي بشكل حتمي إلى صراعات بين هذا القطاع والاستهلاكات المنزلية والقطاع الصناعي. وبالتالي، بات التفكير في بديل آخر لهذا القطاع كقاطرة للاقتصاد الوطني وعاملا خالقا لفرص الشغل، أمرا ضروريا.
وبموازاة مع هذا، فإن الفلاحة التي تعتمد على التساقطات (البورية) والتي لا تستهلك المياه الجوفية يجب إيلاءها أهمية كبيرة ودعمها بمساعدات لأجل الرفع بها الى مصاف الدول الأكثر إنتاجا في هذا المجال. ولا يجب أن تظل الفلاحة السقوية بكاليفورنيا التي كشفت عيوبها بسبب الانحباس الحراري هي النموذج بل الفلاحة البورية التي نجدها في أستراليا حيث قطرة الماء الواحدة ثمينة...
لقد بلغ رصيد المياه وتعقد مشاكل العقار وتوظيف الرأسمال حدا حرجا، لهذا ستستمر الهجرة القروية بل وستتزايد. وحتى ينجذب الفلاح ويظل إيجابيا ويضمن ظروف عيش كريمة تعفيه من العوز والفاقة، يجب خلق فرص شغل في مجالات إنتاجية بديلة أخرى وإعداد يد عاملة تنافسية ومؤهلة عبر تعليم وتكوين فعال ويد عاملة لا يتم اللجوء إليها فقط لبخس ثمنها ومرونتها !
©️ Copyright Pulse Media. Tous droits réservés.
Reproduction et diffusions interdites (photocopies, intranet, web, messageries, newsletters, outils de veille) sans autorisation écrite.